على مدى أيام عدة شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان تداولاً كثيفاً لمقتطفات صحافية ومقارنات تستعيد الحقبة الذهبية للبنان في أوج ازدهاره ومكانته العربية والدولية.
إحدى تلك المقتطفات كتبت تحت عنوان "مرتبة لبنان في التطور والتمدن عالمياً في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون: هو الرابع بعد سويسرا وألمانيا وأميركا، مطاره الدولي مصنف سادساً في العالم، مصارفه الأولى في قارة آسيا، وكان يقرض دولاً مثل الهند وبالليرة اللبنانية. قال عنه مرة الرئيس الأميركي جون كينيدي إنه أجمل نموذج للدولة المثالية".
ليس هذا المقتطف سوى نموذج لمقتطفات أخرى تستذكر لبنان في زمن العمالقة، ومرد ذلك حال الانحدار التي بلغها البلد في ظل انهيار اقتصادي وإفلاس مالي غير مسبوقين، معطوفين على أزمة سياسية بنيوية تطال النظام السياسي والمؤسسات الدستورية.
يستشعر اللبنانيون، كما وسط الأعمال، قلقاً كبيراً حيال مستقبل لبنان الاقتصادي، انطلاقاً من هاجس يقضُّ مضجع كثيرين، ويكمن في السؤال عن موقع البلد ودوره بعد المتغيرات الكبيرة التي شهدها في بنيته الاقتصادية من جهة، والتحولات التي تشهدها المنطقة في الوقت الذي ينوء فيه البلد تحت أعباء أزماته المتتالية من جهة أخرى.
فهل موقع لبنان ودوره في محيطه بات في خطر؟ وهل هو مهدد بخسارة هذا الدور والموقع كنتيجة حتمية للتراجع الذي يشهده اقتصادياً ومالياً، في ظل عزلة عن محيطه العربي، الحاضن الأكبر له والرئة التي يتنفس منها؟
نصر الله والتوجه غرباً درءاً للتطبيع؟
لم يكن غريباً أن يسوق الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، منذ فترة غير طويلة للتوجه شرقاً وعدم الاعتماد كلياً على دول الخليج والغرب، على الرغم من أن الخيار الذي طرحه بالانفتاح على الصين لم يكتب له النجاح في ظل الشروط القاسية التي تفرضها بكين على الاستثمار والتبادلات التجارية، إضافة إلى تعذر تغيير طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين لبنان ودول المحيط.
لبنان مقر إقليمي وصِلة وصل
منذ إعلان دولة لبنان الكبير قبل مئة عام، حرص لبنان على لعب دوره في محيطه كنقطة تواصل وصلة بين الغرب والشرق. ساعده في ذلك تضافر مجموعة من العوامل - الحوافز التي جعلته ينجح في هذا الدور لعقود خلت. فقام اقتصاده على النظام الليبرالي الحر، المستند على المبادرة الفردية وحرية التملك والاستثمار. ونجح في استقطاب الاستثمارات العربية عموماً، والخليجية خصوصاً، كما أبدع في أن يكون مرتعاً للسياحة والاصطياف والخدمات والاستشفاء والطبابة والتعليم، حتى أطلق عليه اسم سويسرا الشرق، ومستشفى العرب وجامعته ومصيفه، ومصرفه، حيث شكل النظام المصرفي الحر ملاذاً آمناً للاستثمارات الريعية.
شكَّل عام 2005 محطة مفصلية في بدء العد العكسي لخسارة لبنان ميزاته التفاضلية، من دون أن يكون لدى أي من زعاماته وقياداته الحاكمة أي رؤية مستقبلية لاحتمالات خسارة هذا الدور، في حين أن دولاً خليجية رائدة مثل السعودية تمكنت من مقاربة العالم الجديد المتغير، فأرسلت مقاربات واستراتيجيات اقتصادية جديدة لا تعتمد على النفط.
وإذا كان لبنان صمد منذ عام 2005، تاريخ اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، في الحفاظ على دوره، في ظل الرعاية والاحتضان الدوليين اللذين حظي بهما شعبه وخطه الاستقلالي، فإن بدء الحرب السورية واحتدام الاصطفاف السياسي الداخلي بين محورين إقليميين متصارعين، رجحا كفة محور الممانعة بقيادة إيران على المحور العربي، الذي شكل محطة مفصلية في بدء التراجع التدريجي للاقتصاد اللبناني. تراجعت نسب النمو وبدأ ميزان المدفوعات بتسجيل عجوزات ظاهرة، فيما نسب المديونية قفزت إلى مستويات خطيرة غير مسبوقة لم تتمكن السياسات الكيدية والخاضعة للحسابات المحلية الشخصية من لجمها وإعادة البلاد إلى النمو المستديم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اقتصاد يغذي اقتصادين
منذ أن بدأت حرب سوريا، ظهرت معالم الترنح على جميع مؤشرات الاقتصاد اللبناني، بعدما استضاف البلد مليوناً ونصف المليون لاجئ سوري، ما ترك آثاراً سلبية على البنى التحتية والخدماتية، حيث استهلكت مقومات صمود الاقتصاد المحلي على حساب تمويل اللاجئين.
وما لبث هذا الوضع أن تطور مع انخراط "حزب الله" في الحرب السورية، حتى بلغ الأمر بدفع الاقتصاد اللبناني نحو تمويل الاقتصاد السوري، ما أدى إلى خروج أموال من القطاع المصرفي المحلي قدرت بين 6 و7 مليارات دولار، لا سيما بعد بدء الانتفاضة الشعبية في أكتوبر الماضي. كما تفاقم الوضع مع عمليات التهريب التي تمت عبر الحدود للمحروقات والسلع الاستهلاكية والغذائية المدعومة.
بات لبنان بالكامل تحت سيطرة المحور السوري – الإيراني ونفوذه، وخرج من المنظومة العربية التي طالما شكلت له الحضن، إن عبر الاستثمار المباشر أو عبر احتضان مئات آلاف اللبنانيين العاملين في دول الخليج.
فالمقاطعة العربية التي بدأت قبل نحو تسع سنوات، قد أثرت في شكل كبير على الخدمات والميزات التفاضلية التي كان يقدمها لبنان لمحيطه العربي، حيث بدأت دول هذا المحيط بالاستعاضة عن لبنان كوجهة أساسية إلى وجهات جديدة قادرة على ملء الفراغ.
دور لبنان يتراجع
إضافة إلى التدهور الاقتصادي والمالي الذي أعاده نحو 70 عاماً إلى الوراء كما يقول أحد المصرفيين المخضرمين، يواجه لبنان مخاطر عدم الالتزام باتفاق السلام الذي بدأ يسلك مساره بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. بعد البحرين والإمارات، تتجه الأنظار نحو سلطنة عمان والسودان والمغرب. ولن تكون بيروت بمعزل عن التداعيات.
وللدلالة على الحذر الداخلي حيال التعاطي مع هذا الاتفاق، لوحظ أن الكلمة الأخيرة للأمين العام لـ"حزب الله" التي تناولت التطورات في المنطقة، خلت بشكل كامل من أي إشارة إلى الاتفاق بين الإمارات وإسرائيل، الأمر الذي فسره مراقبون على أنه نأي عن الموضوع تلافياً لإحداث أي جلبة من شأنها أن تؤثر على اللبنانيين الشيعة العاملين في الإمارات.
وفي رأي متخصصين محليين، فإن السلام ستكون له انعكاساته على لبنان ودوره وموقعه في مجالات عدة، وستتعاظم هذه التداعيات في حال سلكت السعودية هذا المسار. وأبرز التداعيات ستتمثل بالنقاط التالية:
سيضعف الاتفاق وجود وفعالية الكفاءات اللبنانية الموجودة منذ عقود في دول الخليج. فمع تراجع قدرات لبنان التنافسية محلياً بسبب انهياره الاقتصادي والمالي، ستواجه الشركات اللبنانية صعوبة في اختراق الأسواق العربية والولوج إليها، لا سيما بعدما دخل الشأن السياسي عاملاً ضاغطاً في ظل الاصطفافات الإقليمية ولاعبيها المحليين.
غياب الحوكمة والشفافية وتفشي الفساد والهدر في لبنان وعلى مستوى الإدارة في شكل خاص، سيقلص فرص الاستثمار المتاحة، علماً بأن الاستثمار العربي كان أساساً قد تراجع بشكل كبير بعدما كان يبلغ نحو 80 في المئة من الاستثمارات الخارجية.
يكفي الإشارة إلى أحد التقارير الدولية الذي قدر حجم المساعدات والاستثمارات السعودية في لبنان بين عامي 1990 و2015 بنحو 70 مليار دولار، للدلالة على الثقة التي كان يتمتع بها لبنان والاستقطاب للرساميل.
تراجع موقع لبنان السياحي أمام بروز وجهة سياحية جديدة تمثلها إسرائيل، علماً بأن لبنان فقد موقعه كمقصد سياحي للخليج نتيجة عدم الاستقرار الأمني والسياسي والتعرض لدول الخليج من قبل "حزب الله".
والمعلوم أن السياح الخليجيين يشكلون نحو 35 في المئة من السياح العرب، وإنفاقهم السياحي يُوازي 45 في المئة من إجمالي الإنفاق السياحي.
الخوف من شل حركة الترانزيت مع ارتفاع احتمالات فتح الحدود البرية أمام التجارة البرية، في حال وقَّعت السعودية مستقبلاً اتفاق سلام.
انتعاش حركة المرافئ الإسرائيلية على حساب المرافئ اللبنانية. وهذا ما يفسر تدمير مرفأ بيروت وشل حركته (أمام فرضية استهدافه).
خسارة لبنان موقعه في مجال التعليم والطبابة والاستشفاء والعمل المصرفي والمالي، بعدما خسر مقوماته التفاضلية وقدرته على التحديث والتطوير بفعل أزمته المالية.
في المقابل، لا يمكن إغفال المشهد الذي ارتسم قبل يومين مع إعلان رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري إطلاق المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية والبرية مع إسرائيل، ذلك أن مسألة الترسيم التي ستحل أزمة تقاسم مخزون النفط والغاز، ستؤدي أيضاً إلى نوع من أنواع السلام الحدودي في مرحلة أولى، على أن يتطور مساره لاحقاً إلى سلام يتجاوز مسألة الحدود.
وفي هذه الحالة، وعلى الرغم من أن لبنان أعلن أنه سيكون آخر من يوقع مع إسرائيل، فإن فرص استعادة زمام المبادرة والمنافسة يمكن أن تشكل حافزاً لاستعادة دور مفقود، أو على الأقل البحث الجدي في الدور الجديد الذي يمكن للبنان أن يلعبه في زمن التحولات الجيوسياسية في المنطقة.