من أين لهذا الشاب النحيل الهزيل، المحزون بمرضه أبداً، بكل هذا الحماس وهو يغني؟ يصيح على المدى "نزف المسيح" و"أحلف بسماها وبترابها" و"عاش اللي قال" و"حكاية شعب". صاحب النظرات "المسكينة" التي ما تزال تذيب القلوب حتى اللحظة، كان يتحول إلى ثائر حقيقي أمام الميكرفون. تبدو تلك الأوقات التي كان يغني فيها وكأنها لحظات الشفاء الوحيدة التي عاشها، غارقا مع اللحن والجمهور، والكلمات، ناسيا داء "البلهارسيا"، الذي كانت مضاعفاته السبب الطبي المباشر في موت عبد الحليم حافظ، قبل أن يكمل الثامنة والأربعين من عمره، في يوم 30 مارس (آذار) عام 1977، بمستشفى كينجز كوليدج بالعاصمة الإنجليزية لندن.
رحل "العندليب" في غربته بين يدي الأطباء الذين رافقوه طوال رحلة العناء، فيما عاش أغلب حياته يواجه عاصفة غريبة من التشكيك في محنته المرضية، ممن كانوا يروّجون لوجهة نظر غير مفهومة بأنه يدعي المرض كي يكسب تعاطف الجمهور لتتسع شعبيته، كم من مأساة واجهها هذا الرجل!
العاشق يسأل: "نبتدي منين الحكاية؟!"
كان عبد الحليم حافظ صادق الحيرة، كعاشق لم يهدأ له بال، وهو يصدح بكلمات محمد حمزة وموسيقى محمد عبد الوهاب "نبتدي منين الحكاية؟!"، التساؤل المربك ظل يكبر ويكبر، حتى باتت إجابته غير قابلة للشرح، حقا كيف نبدأ حكاية عن حليم، ومن أين؟، إذن هي قصة المرض الذي ظل كامنا وصامتا، ولم يعلن عن نفسه بقوة إلا في منتصف الخمسينيات تقريبا، حينما كان الشاب المتفائل الطموح المختلف يحصد انتصارات البداية، خمسة أفلام وعدة أغنيات ناجحة، ولتوّه كان قد حصل على لقبه الأشهر "العندليب الأسمر"، لتدهمه الأعراض بلا رحمة وهو في حفل إفطار رمضاني عام 1956 لدى أحد أصدقائه، يصاب بنزيف مفاجئ ويكتشف لاحقا إصابته بتليف في الكبد ناتج عن إهمال علاجه من مرض البلهارسيا الذي جاءه في مرحلة الطفولة نتيجة لهوه في مياه النيل، خصوصا أنه نشأ يتيم الأب والأم بقرية الحلوات بمحافظة الشرقية المصرية، وكان يوم ميلاده في 21 يونيو (حزيران) عام 1929، وهو الأخ الأصغر بين أشقائه الثلاث.
رفقاء المسيرة... كانوا نجوما أيضا
شاهد الجمهور عبد الحليم حافظ للمرة الأولى على شاشة السينما عام 1955 بفيلم "أيام وليالي"، وبعدها "أيامنا الحلوة" و"ليالي الحب" و"لحن الوفاء"، وعرضت تلك الأعمال في عام واحد في فترة الازدهار الكبرى للإنتاج السينمائي بمصر، ولكن بدايته كمطرب سبقت ظهوره كوجه سينمائي، من خلال أدائه الأغنيات في أفلام مثل "بائعة الخبر" و"فجر" و"بعد الوداع" ما بين عامي 1953 و1955، عقب نجاحه بأغنية "صافيني مرة"، حينما قدمها للمرة الثانية في حفل إعلان الجمهورية في يونيو (حزيران) 1953، وكان قدّم نفس الأغنية التي لحنها محمد الموجي وكتبها سمير محجوب للمرة الأولى قبلها بعام، ولاقت حينها "فشلا مروعا" كاد أن يحبط الفتى ضعيف البنية عاشق المثابرة!
مجد عبد الحليم حافظ الغنائي تشكل بإسهام عدد من ملحني جيله، خصوصا رفيق دربه كمال الطويل، حيث درسا معا بمعهد الموسيقى العربية منذ عام 1943، وللمفارقة درس العندليب في قسم التلحين آلة "الأوبوا"، فيما درس الطويل بقسم الغناء والأصوات، ومن ضمن الموسيقيين الذين أثّروا في مشواره كذلك كمطرب حمل رياحا جديدة على الأغنية العربية وقتها، محمد الموجي وبليغ حمدي ومنير مراد، وعلى الفور قفز إلى مركبه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي قدم له مجموعة من أهم الأعمال، ومن أكثر الشعراء الذين تعاون معهم العندليب: مرسي جميل عزيز، وحسين السيد، ومأمون الشناوي، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي. من الصعب بالطبع الحديث عن ما يقرب من 250 أغنية قدمها عبد الحليم حافظ، ومدى تميزها، ومدى براعة أدائه، حيث غنى القصائد الطويلة مثل "رسالة من تحت الماء" و"لست قلبي" و"حبيبها" و"حبيبتي من تكون" و"قارئة الفنجان"، بأداء يخطف الأنفاس وشاعرية وقوة وتمكن من اللغة، وعلى نفس المستوى كانت أغنياته الوطنية والعاطفية باللهجة العامية المصرية أيضا، مثل أناشيد خاصة تردد يوميا في أركان البيوت العربية، وكانت له تجربة أيضا مع اللهجة الخليجية بـ"يا هلي".
عبد الحليم حافظ والسينما... هكذا بدأ الفيديو كليب عربيا
عبد الحليم حافظ مثل أغلب مطربي جيله كانت السينما وسيلته الأولى للظهور وتحقيق الشهرة، حيث قدم 16 فيلما من بطولته وظهر في اثنين كضيف شرف، هما "إسماعيل ياسين في البوليس الحربي" و"قاضي الغرام"، بالإضافة إلى خمسة أفلام قدم لها الأغنيات فقط، فيما كان آخر عمل تمثيلي له هو "أرجوك لا تفهمني بسرعة"، وهو مسلسل إذاعي قدمه قبل رحيله بثلاثة أعوام "1974"، مع نجلاء فتحي وعادل إمام، وسمير صبري، أما الفيلم السينمائي الأخير للعندليب فكان "أبي فوق الشجرة" مع ميرفت أمين، الوجه الصاعد حينها، وعرض عام 1969 وحقق نجاحا ضخما في شباك التذاكر.
عبد الحليم حافظ كممثل وقف أمام كبار نجمات الشاشة مثل فاتن حمامة وماجدة وشادية ومريم فخر الدين ونادية لطفي وزبيدة ثروت ولبنى عبد العزيز، وسعاد حسني "ربطته بها قصة حب أكدها أصدقاؤه وكثيرون منهم وثقوا زواجهما السري"، كان في الأساس يخدم نفسه كمطرب أولا، ولجأ للسينما كعامل مساعد وكبوابة للوصول بأغنياته إلى جماهير أعرض. الناقد إيهاب التركي يعلق على هذا الأمر لـ"اندبندنت عربية" بالقول "عبد الحليم حافظ الممثل كان أقل من عبد الحليم المطرب، فهو ممثل متوسط الموهبة بلا جدال، ولكن الكاريزما الكبيرة له كمطرب كانت هي الطاغية، كما أنه كان يملك رؤية في اختيار موضوعات أفلامه، وهي ملكة مهمة أيضا"، ويضيف أن "ذكاء عبد الحليم حافظ في إدارة موهبته جعله يختار موضوعات تشبهه كشخص وتتماشى مع مشواره كمطرب على أرض الواقع، وفي نفس الوقت تتوافق مع الرومانسية التي تليق بعصره وتكون معبرا حقيقيا عن أسلوبه الغنائي"،
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويواصل التركي "من الأدوار التي كانت تعبر في ملامح منها عن حياته الحقيقية، شخصية المطرب الفقير الصاعد فى (معبودة الجماهير)، والمطرب المصاب بمرض خطير فى (حكاية حب)، وأستاذ الموسيقى في (شارع الحب)، وهي خطوط درامية من حياته أصلا، وبالطبع كما هو معروف فعبد الحليم كان في بدايته بحالة مادية متواضعة، وأيضا مصاب مرض عضال، وعمل أيضا لبعض الوقت كمدرس للموسيقى".
يلفت الناقد إيهاب التركي النظر إلى أن مطربين، مثل فريد الأطرش ومحمد فوزي، قدما أفلاما أكثر بكثير من العندليب وكان لدى كل منهما تنوع في الشخصيات والموضوعات، فيما هو لم يقدم أعمالا تراجيدية بحتة مثلهما ولا كوميدية خالصة أيضا، ولكنه كان ناجحا في "التوليفة" التي يصنعها حيث كان موفقا في تقديم أفلام ظريقة وبها خفة دم وتحمل شجنا أيضا.
يواصل التركي "هذه التوليفة جزء كبير منها ذكاء اختيار وطبعاً فريق عمل مميز، وعدد الأغنيات الكبير في أفلامه يؤكد أن الأغنية جزء أصيل من الفيلم وبدونها سيكون الفيلم ضعيفا جداً".
ويشدد إيهاب التركي على إضافة عبد الحليم حافظ الكبرى لشكل الأغنية في السينما المصرية من خلال انفتاحه ورغبته في تقديم شيء مختلف، ويشرح قائلا "تمكن من إضافة شكل جديد لأغنية السينما مع مخرجين واعين ويدركون إمكاناته جيدا، فمثلا أغنيات فيلم (أبي فوق الشجرة) بها ابتكار لم يكن معتادا حينها في شكل الأغنية في الأفلام، وهو أمر سبق فكرة الفيديو كليب بسنوات طويلة، وبدا متقدما جدا حينها".