في عام 2014 عندما أعلن تنظيم "داعش" سيطرته على مدينة الموصل وقيام دولته، كانت طهران تراقب بحذر وقلق التطورات التي تحدث على الساحة العراقية وتقويم التداعيات التي قد تنتج منها ومدى تأثيرها في أمنها القومي. إلا أن التوسع الذي حصل بعد سقوط الموصل واحتلال "داعش" أجزاء من محافظة ديالى القريبة من الحدود الإيرانية، استنفر المؤسسة العسكرية وحرس الثورة ودفعها للذهاب إلى خيار الدخول المباشر في التصدي لهذا التوسع ومنع امتداده إلى حدود أمنها القومي، فشاهد العالم كيف تحركت طائرات "أفF4 " الإيرانية وقامت بقصف تجمعات عناصر هذا التنظيم وهددت بتدخل مباشر ميداني ورسمت حدود تماس بينها وبين هذه الجماعات على بعد 100 كليومتر عن حدودها، وذلك قبل أي تحرك دولي أو حتى عراقي لمواجهة التهديد الذي يمثله هذا التنظيم. الأمر الذي شكل جسراً للدخول المباشر على الأزمة العراقية والدفع "بمستشاريها العسكريين" من حرس الثورة بقيادة قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني للإمساك بمفاصل القرار العسكري العراقي وحتى الكردي في مواجهة هذا التنظيم وفتح الطريق أمام التحكم لاحقاً بالعملية السياسية في بغداد من خلال القوى والأحزاب والفصائل التي كرست وجودها، أو برزت على هامش هذه المعركة وتحت غطاء مباشر من سليماني الذي أمسك بالملف العراقي بكل ما أوتي من سلطة.
لذلك من الطبيعي أن يخرج أكثر من مسؤول إيراني مدني وعسكري ويعلن بصراحة وبشكل مباشر أن بلاده لا يمكن أن تتحمل وجود جماعات مسلحة على حدودها الشمالية الغربية في منطقة القوقاز الجنوبي يقاتلون في الحرب التي تفجرت بين جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورنو قره باغ.
ويصبح أيضاً كلام المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي قابلاً لإدراك خلفياته التي تتسع لشمل كل المساحات التي تعتبر ميدان مواجهة بين النظام الإيراني وهذه الجماعات في الإقليم. خصوصاً أن للمقاتلين الذين يوجدون مع الجانب الأذربيجاني خصوصية على علاقة مباشرة لما شهدته الساحة السورية على مدى السنوات الثماني الماضية، إذ تعتبر إيران وحلفاؤها اللبنانيون والعراقيون والأفغان والباكستانيون الطرف الذي قاد المعركة الحقيقية ضد الفصائل السورية المسلحة التي كانت قاب قوسين أو أدني من السيطرة على كامل الأراضي السورية ووضع حد للنظام الحاكم في دمشق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من العلاقة التي تربط بين طهران والدولة التركية وما فيها من توافقات وتفاهمات من جهة، وتقاطعات من جهة أخرى، خصوصاً في ما يتعلق برؤية كل طرف منهما تجاه الأزمة السورية التي لم يستطع مسار آستانا التقليل من حدة الحذر وعدم الثقة بينهما في ما يتعلق بآليات العمل للحؤول دون وصول الأمور بينهما إلى مرحلة التصادم على الأرض السورية. إلا أن الخطوة التي قامت بها حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنقل مجموعات من المسلحين السوريين للقتال إلى جانب حكومة إلهام علييف الأذربيجانية، تعتبر في نظر طهران محاولة من قبل أنقرة للعب في داخل ملعب الأمن القومي الإيراني وتحويل حدودها الشمالية الغربية إلى منطقة غير مستقرة. وذلك من خلال اللجوء إلى استخدام هذه الجماعات المسلحة كمقاتلين، على قاعدة إحراج طهران التي ذهبت إلى خيار التحالف مع حكومة يريفان الأرمنية في صراعها مع حكومة باكو بناء على مصالحها الاستراتيجية في منطقة القوقاز ومواجهة التحالف الذي أقامته باكو مع الإدارة الأميركية منذ أيام الرئيس بيل كلينتون والانفتاح على التعاون الأمني والاقتصادي مع الحكومة الإسرائيلية وتحويل الأراضي الأذربيجانية إلى مصدر تهديد لأمن واستقرار إيران.
وهذا التوجه لدى طهران لم يمنع من احتفاظ كلا الطرفين، الإيراني والأذربيجاني، على مستوى من التعاون الإيجابي في ما يتعلق بمستقبل العلاقات والتعاون بين دول حوض بحر الخزر أو بحر قزوين ومباحثات واتفاقيات تقسيم الثروات في هذه البحيرة، البحر المغلق، فضلاً عن استخدام هذه العلاقة في عملية التهدئة الداخلية نظراً لما للجماعة الأذربيجانية من تأثير على المكون الأذري في طهران أمام تنامي الدعوات القومية والعرقية التي ارتفعت وتيرتها في تسعينيات القرن الماضي والتي بدأت بالمطالبة بنوع من الانفصال وإقامة الدولة الأذرية الكبرى.
ولعل القيادة الإيرانية قد استحضرت تجربتها السورية والحرب التي خاضتها مع حلفائها ضد هذه الجماعات المسلحة، وهي أيضاً لا شك حاضرة في ذاكرة ودوافع هذه الجماعات التي تتعاون مع أنقرة ورضوخها لقرار الأخيرة القتال بعيداً من الأراضي السورية في خدمة المصالح التركية انطلاقاً من علاقة الاستتباع والتبعية التي نشأت بين تركيا وهذه الجماعة وسمحت بتوظيفها أيضاً لخدمة هذه المصالح على الساحة الليبية.
الحساسية الإيرانية، لا تقف عند مخاوفها من الطموحات التركية في تحويل الخاصرة الشمالية الشرقية لإيران إلى خاصرة رخوة أمنياً، بل أيضاً من تحويلها إلى منطقة مفتوحة على صراعات لا تنتهي بينها وبين هذه الجماعات في حال قررت أنقرة الإبقاء عليها في أذربيجان إذا ما تم التوصل لاحقاً إلى حلول وتفاهمات لإنهاء الصراع القائم بين باكو ويريفان. أي أن المخاوف الإيرانية لا تنحصر في التهديد الأمني المباشر، بل تحويل الحدود الأذربيجانية الإيرانية في هذه المنطقة إلى ساحة لانتقام هذه الجماعات من الإيرانيين على خلفية الحرب التي جرت بينهما على الساحة السورية.
والحساسية الإيرانية لا تقف عند حدود هذه المخاوف، بل تصل إلى إمكانية تحويل هذه الحدود إلى مسرح لحرب عصابات بين هؤلاء المسلحين السوريين والجماعات المسلحة الأرمينية التي انتقلت أيضاً من لبنان للقتال إلى جانب إخوانهم في أرمينيا لمواجهة التهديد والأطماع الأذربيجانية، وأن يتحول هذا الصراع إلى امتداد للصراع بين الجماعات السورية الموالية لتركيا وميليشيات الأقليات الدينية في سوريا خصوصاً أن الكنيسة الأرمينية في الشرق الأوسط هي كنسية تجمع أرمن سوريا وأرمن لبنان تحت لواء واحد، وأن تمتد هذه الصراعات إلى داخل الأراضي الإيرانية، لا سيما أن المناطق الحدودية لمحافظة أذربيجان الغربية الإيرانية تشكل مناطق انتشار لأرمن إيران التي يقود كنيستها المطران سيبو سركيسيان اللبناني الإقامة، السوري الأصل الذي عينته البطريركية الأرمنية في لبنان مطراناً لأرمن إيران.
وهذه المخاوف الإيرانية تزداد وتيرتها لترافقها مع ارتفاع التوتر لدى المكون الأذري الإيراني الذي فرض على الحكومة الإيرانية وخارجيتها، إضافة إلى ما أحدثته من تغيير في موقف القيادة العليا للنظام وتمثل في البيان الذي أصدره أربعة من ممثلي ولي الفقيه في المحافظات التي تضم هذا المكون الأذري الذين أعلنوا وقوفهم الصريح إلى جانب إخوانهم في العقيدة والعرق في جمهورية أذربيجان، ودعم حقهم في استعادة الأراضي التي احتلها الأرمن في إقليم ناغورنو قره باغ في حرب عام 1994، على العكس من الموقف التاريخي الذي تبنته طهران خلال العقدين الأخيرين على الأقل بالوقوف إلى جانب يريفان في صراعها مع باكو، وذلك في خطوة لا تعني سوى ارتفاع مستوى القلق الإيراني من أن تؤدي هذه الحرب إلى تفجير الشعور القومي لدى أذريي إيران وتحول الداخل الإيراني إلى ساحة صراع مختلف تحركه جهود الحكومة المركزية لفرض سيطرتها وحراك قومي أذري للمطالبة بحقوقهم القومية داخل التركيبة الإيرانية من بوابة التعاطف مع إخوانهم في أذربيجان.