يشكل انتقال السلطة في الجزائر ما بعد حكم عبد العزيز بوتفليقة، عامل إغراء لشركاء تقليديين وغير تقليديين للدولة الجزائرية في مجالات اقتصادية وعسكرية، لذلك تتوالى زيارات "جس نبض" خيارات النظام الجديد، في وقت تُبدي فيه جزائر ما بعد الحراك انفتاحاً ضمن ما تسميه "تنويع الشركاء" وكسر احتكار حلفاء دون غيرهم.
ولفترة تجاوزت ست سنوات كاملة، كان زوار الجزائر من رؤساء ومسؤولين كبار يتحرجون من لقاء الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة إثر اعتلال وضعه الصحي، وتدريجياً بات نادراً عقد لقاءات ثنائية بين الجزائر وشركائها، ثم اختفت مشاركاتها في المؤتمرات الدولية متعددة الأطراف، كل هذا أوصل الخارجية الجزائرية إلى حالة من العزلة الدولية وفردية القرار، مقابل احتكار أنظمة "صديقة" لمحيط الرئيس السابق، الانتفاع من شراكات اقتصادية.
فترة استماع
حينما انغمست الجزائر في محاولة لعب دور في ليبيا، رفعت شعار "المسافة الواحدة" والذي بات يبدو مع مرور الأيام خياراً دبلوماسياً شاملاً في علاقات البلد بحلفائه وشركائه في الخارج.
والسياسة الخارجية هي إحدى الصلاحيات الواسعة ضمن قائمة اختصاصات رئيس الجمهورية وحده. ويصف دستور البلاد رئيس الدولة بالذي يتولى السياسة الخارجية ويخطها ويعلن الاستنفار والتعبئة العامة في أوقات الحرب ويوقع معاهدات السلم.
على الصعيد العسكري ومحاربة الإرهاب، وما بين زيارة لقائد قوات "أفريكوم" وزيارة وزير الدفاع الأميركي، استقبلت الجزائر وفداً عسكرياً روسياً رفيعاً، وغداة استقبالها مسؤولين إيطاليين وإسبانيين، آخرهم رئيس الوزراء الإسباني الذي حل في الجزائر يوم الخميس، يترقب مسؤولو هذا البلد استقبال وفد صيني رفيع السبت المقبل.
يقول الوافي بوشماخ، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، عن مسار الخارجية الجزائرية منذ مطلع العام لـ"اندبندنت عربية": "منذ البداية يحاول تبون رسم سياسة المسافة الواحدة، بدأ زياراته الخارجية من السعودية، واستقبالاته الداخلية بزيارة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان".
ويذكر بوشماخ أن "الجزائر في فترة السلطة الجديدة تستمع وتستمع، ومن الواضح أن الطرفين، الحكومة وشركاء الخارج، في مرحلة جس نبض دون إثارة ملفات خلافية، والسر دائماً يكمن في سؤال تبحث عواصم دولية عن إجابة له، وهو: إلى أي مدى تخلصت الجزائر من اللوبي الفرنسي المتنفذ في السلطة؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد بوشماخ أن "نوايا الجزائر في الاستثمارات الكبرى تتجه للشريك الصيني، وعسكرياً ستظل روسيا حليفتها التقليدية، وفي مكافحة الإرهاب تحاول حماية تموقعها الجديد كشريك للولايات المتحدة الأميركية، وبقي التفصيل الأكثر أهمية، وهو الشراكات في المجالات التقنية والخدمات، وأتصور أن المجال مفتوح لشركاء جدد في أوروبا بعيداً عن الهيمنة الفرنسية"، معتبراً أن "إعلان فسخ التعاقد مع مؤسسة فرنسية لتسيير مترو العاصمة الجزائرية، وإقالة المسؤول الفرنسي عن شركة (سيال) لتوزيع المياه، إشاراتان واضحتان لألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها".
مرحلة الملفات الثقيلة
بعد فترة توقف إجبارية للزيارات من وإلى الجزائر بسبب الوضعية الوبائية، تباشر الجزائر السبت، أول محادثات رفيعة مع الشريك الصيني تزامناً مع بدء دراسات جديدة في ميناء "الحمدانية" في محافظة تيبازة (70 كلم غرب العاصمة)، وهو مشروع مشترك تتجه خدماته نحو أفريقيا.
وأعلنت وزارة الخارجية أن "يانغ جايشي، عضو المكتب السياسي ورئيس مكتب الشؤون الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، سيحل في الجزائر على رأس وفد هام يشارك فيه وانغ شياوتاو، رئيس الوكالة الصينية للتعاون الدولي من أجل التنمية".
وذكر بيان عن الخارجية أن "هذه الزيارة تندرج في إطار الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، بهدف تعزيز وترقية علاقات الصداقة والتعاون القائمة بين بلادنا والصين، حيث سيحظى يانغ جايشي خلال زيارته إلى الجزائر بمقابلة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، كما سيجري مباحثات مع وزير الشؤون الخارجية صبري بوقدوم".
وستكون هذه الزيارة "التي تأتي في ظروف صحية استثنائية، فرصة للجانبين لتقييم علاقات التعاون القائمة بين البلدين في مختلف المجالات وبحث فرص ترقيتها وتطويرها، لا سيما في المجالات الاقتصادية، ومنها الهياكل والمنشآت القاعدية، والأشغال العمومية والنقل والتجارة والاستثمار، وفي ميادين التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيات الحديثة".
ويمكن، على هذا الأساس، اعتبار هذه الزيارة بدء "الملفات الثقيلة" بين الجزائر وبكين في أعقاب سلسلة طويلة من "المجاملات"، لا سيما في عز المعركة المحلية للأطقم الطبية ضد "كورونا". فقد تلقت الجزائر هبات طبية كثيرة من نظيرتها الصينية، وكان ملاحظاً تنقل الوزير الأول عبد العزيز جراد إلى المطار للإشراف على مراسم وصولها.
الرهان الأوروبي الخاسر
يفيد الباحث الجزائري في الدراسات القانونية، والمقيم في فرنسا، محمد الهادي وجاني، لـ"اندبندنت عربية"، بأن "هناك رغبة مُلحّة من السلطات الجزائرية دخول الأسواق الأفريقية بأي ثمن. أعتقد أن نقاشات كبار المسؤولين قد توصلت إلى نتيجة أن الخروج من التبعية للمحروقات لن يتم عبر البوابة الأوروبية، التي تشترط معايير وتفرض قيوداً كبيرة، والبديل هو القارة السمراء، وأعتقد أن الرئيس تبون معجب إلى حد كبير بسياسية الصين الناعمة في هذه القارة".
ويتابع وجاني "لا أتصور أن الطريق إلى أفريقيا سهل أمام تغير كثير من المعطيات في هذه القارة ودخول لاعبين جدد أهم ينافسون المستعمرة التقليدية فرنسا".
الإقليم والإرهاب
يؤمن وجاني بأن الجزائر "قد أعطت إشارات صريحة بأنها لا ترغب في التفريط في دورها كرائدة في مكافحة الإرهاب"، لكنها في الوقت نفسه "تريد أن تتحول إلى لاعب مهم للاستثمار في المنطقة، لا يمكنها فعل ذلك بهذا الموروث القانوني والإدارة غير الرقمية والأخذ من تجارب مختلفة، بمرور الوقت أتوقع أن تختار الجزائر شركاءها بشكل أكثر دقة وعلى أساس عوامل ليس فيها عامل تصدير الإعجاب كما يراد حالياً".
أما في شمال القارة فيرى الباحث أن "علاقات الجزائر بتونس مرشحة لتحول تاريخي وجوهري بناءً على مراجعات حدثت في داخل البلدين، تقول بالانتقال إلى تحالفات استراتيجية بعيداً عن النمطية الحالية"، مضيفاً أن "متغيرات عدة قد طرأت على خيارات الجزائر الدبلوماسية من الجانب النظري، أما على أرض الواقع فكل شيء مرشح للصعود أو النزول ما دامت المسائل الجدية لم تبدأ بعد، وذلك بمجرد مباشرة النقاشات مع الاتحاد الأوروبي حول اتفاق الشراكة أو دخول المفاوضات مع كل من إسبانيا وإيطاليا، مرحلة من الجدية بخصوص الحدود البحرية الاقتصادية".