منذ مجموعتها القصصية الأولى "البنت التي سرقت طول أخيها"، ظلت المصرية صفاء النجار مشغولة بدائرة الأسرة الصغيرة، بدءاً من جيل الأجداد إلى جيل الإخوة. ولهذا كان من الطبيعي أن تكتب في مجموعتها الأخيرة "الدرويشة" (دار بتانة- القاهرة) عن جدتها وأمها وأبيها، أربع قصص متتابعة. وأعتقد أن المرأة مدار اهتمامها الأول كاستنتاج أولي من ترتيب تلك القصص، وهو ما يتأكد في قصص أخرى، سواء كانت هذه المرأة منتمية إلى الماضي مثل "سندريلا" التي تستدعيها الساردة في أولى قصص المجموعة، أو منتمية إلى الحاضر مثل الجدة والأم.
ويمكن ملاحظة أجواء مقبضة في تلك القصص عموماً، إذ يشيع فيها الموت واستحضار ظلال الراحلين والخوف من المجهول والشعور بالاغتراب. في قصة "صوت"، واللافت أن هذا العنوان يتكرر مع أكثر من قصة شأنه شأن "الصدى"، "لعلي كنتُ قطاً في زمن ما، في مكان ما. لا بد أن هذا شيئاً من الحقيقة، فلدي إحساس حوله المرض إلى يقين أنني أعيش في المكان الخطأ، في الزمن الخطأ". وهذا شعور حاد بالاغتراب ليس تجاه المكان والزمان فقط، بل تجاه كيان الساردة نفسها عبر فكرة "تناسخ الأرواح"، التي تجعلها تتخيل أنها كانت (في زمن ما) متجسدة في كائن آخر. وفي المقابل تقوم الكاتبة بـ"أنسنة الكائنات"، ففي قصة "كوشينا" ترسل الساردة رسالة إلى قطة، أطلقت عليها ابنتها "مريم" هذا الاسم المستوحى من أسطورة الأميرة "كوشينادا" اليابانية. ولا شك أن هذا يدل على الطابع المعرفي، الذي تتميز به بعض القصص، فالساردة تسوق كثيراً من المعلومات عن النباتات والحيوانات والأماكن، لكنها تدخلها فى السرد بفنية واضحة... "عزيزتي كوشينا، أكتب لك لأنني أشعر ببعض الذنب تجاهك، فما زلتِ على الرغم من مرور أسبوعين من قدومك لنا قطة مريم، لم تصبحي بعد قطة البيت". وهكذا يتم ضرب أفق التوقع، فالمتلقي لا يشك أنها تخاطب صديقة، ثم يكتشف أن الأمر غير ذلك.
ألوان الألم
هذا ما نجده كذلك في قصة "الصوت" التي تتخذ أيضاً شكل الرسالة، إذ نكتشف أنها تتحدث إلى صديقة متوفاة، وهي تخاطب صديقتها التي تراها قادرة على تحويل الألم إلى ألوان. نكتشف أن هذا الانتصار لم يتم إلا بالموت. والحقيقة أن هذه القصة تطرح تيمة "الجسد المعتل"، ولعل هذا هو سر خوف الساردة من المجهول، حين تستعير قناع عمتها في قصة "الصدى"، "الذين لم يختبروا صوراً متعددة للحياة يهابون التغيير. كانت عمتي التي لا تنام والنور مطفأ تقول، هنا أكثر أماناً. أنا لا أحب المجهول". هذا العذاب الذي يسببه اعتلال الجسد يجعل من الألم تيمة متكررة. في قصة "الصوت" نقرأ، "الألم. ليس حليفاً وليس عدواً. الألم طابور خامس ينشر الشائعات، يشوش إدراكك ويلهيك عن معركتك الحقيقية".
وقد يبدو مما سبق أن الكاتبة أسيرة ذاتها، لكن هذا غير صحيح إذ إنها كثيراً ما تخرج عن هذه الذاتية لترى العالم من حولها... في قصة "الزمن الأسطورة والأزرق الحار"، "هناك بشر كثيرون كانوا يفكرون خارج اهتماماتهم اليومية والبديهيات والصراع والمطالبة بمزيد من الديمقراطية". لكن هذه الاهتمامات العامة هي جزء أصيل في وعي الكاتبة، ويظهر ذلك في قصة "يوميات السندريلا فى القصر" التي تقوم فيها بعصرنة القصة القديمة. ويمكن القول إن القصة امتداد للحكاية القديمة حيث تتخذ الكاتبة قناع سندريلا حين هالَها أن القصر الملكي "يستهلك نصف كهرباء السد الكبير المبني جنوب المدينة، بينما يوزع النصف الآخر على بقية الشعب". وهكذا تكشف القصة تناقضات الواقع قديماً وحديثاً بطرح وعي مغاير، هو وعي ضرورة العدالة الاجتماعية. كما تواجه الأزمات عموماً بأحلام تبدو أحياناً تنبوءات، وأحياناً تكون قريبة من الكابوس الذي تحكيه الساردة لجدتها فتحل ألغازه بخبرتها الطويلة. وفي حديثها عن أبيها تلجأ الساردة إلى أسطرة شخصيته، حين تذكر أنه لم يكن موظفاً كبيراً بل كان راعياً للأغنام، "اكتشف يوماً أن عصاه تلتصق بصخرة. لم تكن حجراً. كانت سراً ظل أبي مجذوباً لمداراته".
انتقالات حُرة
قد يكون الحدث نفسه أسطورياً كما يظهر في قصة "الدرويشة والمريد"، حين تمد الطبيبة الشابة يدها إلى القفص الصدري للدرويشة، "وفي حركة مباغتة تخترقه، تخرج القلب ترفعه أمام الوجه المستكين بخدر من الحنين والدهشة". أو حين تقول لها هذه الطبيبة، "في أي مكان بمجرد أن تشعري بالرغبة في النوم أو الراحة، ستجدين نفسك في غرفة نومك"، وقد حدث ذلك بالفعل. أو حين تمد الدرويشة يديها إلى خيوط الشمس الذهبية، "وتتسلقها كما لو كانت حبلاً ممتداً إلى حيث لا تعلم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه التقنيات السردية منحت الكاتبة إمكانية الانتقالات الحرة داخل الزمان والمكان، وكما لاحظت الساردة من خلال قناع سندريلا تناقضات الواقع، نجدها في قصة "أنا كاتبة لأني أشبه أبي"، "يقوم بالدور نفسه حين يرسم يوماً طفلين فقيرين يأكلان العنب والبطيخ، وكانت ملابسهما ممزقة وأظافرهما طويلة وقذرة وأرجلهما متسخة. غضب الملك. كيف تقع عيناه على هذه القذارة؟". وفي قصة أخرى يصبح التدريب على الحياة أشبه بالتدريب على السباحة، على اعتبار أننا في الحالتين نخوض أمواجاً متلاطمة. وهذه القصة يغلب عليها الطابع الحكمي، حين تؤكد أن القدرة على السباحة تقوم على الإزاحة والإبعاد والنفي لكل ما هو ضار ومعيق وغير ضروري، وتختمها بـ"الاستقامة والتوازن هما سر البقاء وما عداهما أشياء ثانوية، لكن من منا يتحمل تكلفة الاستقامة"؟. ويمكننا أن نشير أخيراً إلى أن السرد يتراوح بين ضمير الغائب والمتكلم، وقد تغلب عليه الغنائية أحياناً، التي لا يقطعها إلا توظيف الحوار السريع.