يعيش على وجه المعمورة اليوم نوع واحد فقط من الأنواع البشرية المعروفة، يسمى "الإنسان العاقل" (هومو سابينس - Homo sapiens)، ويعتبر نوعنا هذا الناجي الأخير من ضمن ستة أنواع مختلفة، على أقل تقدير، من البشر الأوائل.
ولكن ماذا وراء انقراض أسلافنا القدامى في وقت استطاع "الإنسان العاقل" (نوعنا) خلافاً لذلك أن يحافظ على بقائه، وانتشر تالياً في مختلف بقاع الكوكب؟
وفق بحث جديد، ربما لا تختلف الأسباب التي أفضت إلى أفول غيرنا من الأنواع البشرية عن الخطر الأكبر ذاته، المتمثل بتغير المناخ، الذي يتهدد اليوم البقاء الطويل الأجل لنوعنا.
في الدراسة الحديثة، جمع الباحثون بين نماذج مناخية افتراضية على الكمبيوتر وسجلات أحفورية، في عملية بحث عن أدلة توضح أسباب حوادث الانقراض السابقة التي شهدها كوكب الأرض، وتبين لهم أن عجز الأنواع البشرية القديمة عن التأقلم سواء مع ارتفاع درجات حرارة المناخ أو تدنيها أدى "دوراً رئيساً" في أن يكون الاندثار مصيرهم.
للإضاءة على استنتاجات الدراسة، تحدث باسكوال رايا من "جامعة نابولي فيديريكو 2" University of Naples Federico II في إيطاليا، فقال إن "النتائج التي خلصنا إليها تظهر أن الأنواع السابقة من الإنسان لم تستطع البقاء على قيد الحياة في ظل التغير المناخي الشديد على الرغم من التوصل إلى ابتكارات تقنية آنذاك، بما فيها استخدام النار والأدوات الحجرية المصقولة وتشكيل شبكات اجتماعية معقدة، وحتى صناعة رؤوس رماح لاصقة بالنسبة إلى أبناء "إنسان النياندرتال" (Neanderthal) وملابس ملائمة والتمتع بقدر معقول من الثقافة والتبادل الجيني مع "الإنسان العاقل".
"لقد حاولوا (أسلافنا القدامى) جاهدين وتوجهوا إلى أكثر الأماكن دفئاً التي كانت في متناولهم حينما صار المناخ بارداً، لكن في نهاية المطاف، لم يكن ذلك كافياً"، وفق كلمات الدكتور رايا.
واستخدم الباحثون برنامجاً حاسوبياً عالي الدقة يحاكي أحوال المناخ السابقة بغية توفير بيانات حول درجة الحرارة وهطول الأمطار، وغير ذلك من معلومات للتوصل إلى نماذج مناخية تغطي الخمسة ملايين سنة الماضية.
يذكر أن تلك المرحلة الزمنية شهدت انقراض الأنواع البشرية المبكرة، من بينها "الإنسان الماهر" (هومو هابيلس - Homo habilis) و"الإنسان العامل" ("هومو إرغاستر" - Homo ergaster) و"الإنسان المنتصب" ("هومو إريكتوس"- Homo erectus) و"إنسان هايدلبيرغ" ("هومو هايدلبيرغينيسيس" - Homo heidelbergensis) و"إنسان النياندرتال" ("هومو نياندرتال"- Homo neanderthalensis).
كذلك درس الباحثون قاعدة بيانات أحفورية واسعة تشتمل على أكثر من ألفين و750 سجلاً أثرياً بهدف وضع نماذج افتراضية حول تطور الظروف المناخية الملائمة التي تكون فيها الأنواع البشرية قادرة على النجاة، على مر الزمن.
كان الغرض المنشود معرفة الحالات المناخية الأفضل بالنسبة إلى هؤلاء البشر الأوائل وكيفية تأثرهم بالتغيرات التي طرأت على المناخ.
تقدم الدراسة، وفق كلام الباحثين، "أدلة قوية" توضح أن ثلاثة أنواع بشرية، هي "الإنسان المنتصب" و"إنسان هايدلبيرغ" و"النياندرتال"، خسرت نسبة كبيرة من الظروف المناخية الملائمة لها قبل أن تفنى.
وأفادوا بأن ذلك الانحسار الذي طال الحالة المناخية الملائمة لأسلافنا القدماء تزامن مع تغيرات حادة وغير مرغوب فيها واجهها المناخ على الصعيد العالمي.
وبالنسبة إلى "إنسان نياندرتال" تحديداً، يرجّح أن الأمور قد تفاقمت سوءاً نتيجة التنافس بينه و"الإنسان العاقل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال الدكتور رايا في هذا الشأن "فوجئنا بالتأثير المتكرر لتغير المناخ. كان جلياً بالنسبة إلى الأنواع المنقرضة، هي دون غيرها، أن الظروف المناخية كانت شديدة الوطأة خلال الفترة التي سبقت الانقراض مباشرة، وفي ذلك الوقت تحديداً".
ولكن في المقابل، أشار إلى أن الشكوك تعتري نماذج محاكاة المناخ القديم، علاوة على أن بعض عمليات التعرف إلى البقايا الأحفورية تبقى ضمن مستوى الأنواع فقط، ناهيك عن تقادم مواقع الحفريات وتأثرها بمرور الزمن، بيد أن الأفكار الرئيسة "تبقى صائبة في ظل جميع الافتراضات"، حسبما قال.
في نظر الدكتور رايا، تعدّ نتائج الدراسة بمثابة تحذير للبشر اليوم فيما نواجه تغيرات غير مسبوقة في المناخ. وذكر في هذا الصدد "تبعث على القلق معرفة أن أسلافنا، الذين لم تكن قدرتهم الذهنية أقل شأناً مقارنة بأي كائن حي آخر على وجه الأرض، تعذّر عليهم الصمود أمام تغير المناخ".
وأردف "هذا ما استنتجناه في وقت يقطع نوعنا البشري الغصن الذي يجلس عليه جراء وقوفه وراء تغير المناخ. شخصياً، أعتبر ذلك رسالة تحذيرية مدوّية. تغير المناخ جعل الإنسان هشّاً وبائساً في الماضي، ومن الجائز أن يتكرر ذلك".
أخيراً، نشر البحث في مجلة "سيل برس" Cell Press.
© The Independent