هل تتخيلون دولة تنفق كل طاقتها واستراتيجيتها لإحداث الاضطرابات في الداخل والخارج؟ لسوء الحظ، فإن بلدي في هذا الوضع الآن. ولا تزال أنقرة تدور في حلقة مفرغة في علاقاتها الدولية.
ففي غضون عام، جلست على الطاولة مع أي دولة تعيش معها أزمة، وبينما كنا نظن أن الأمور قد هدأت، إذا بنا نراها دخلت في مشكلة أخرى مع الدولة ذاتها مرة أخرى، وهكذا دواليك. وقبل أسبوعين فحسب، تباحثت مع أثينا تحت إشراف الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي؛ لأنها كانت تعاني مشكلات معها، بسبب التنقيب عن غاز شرق المتوسط، وأسفرت المباحثات عن تهدئة الأجواء، وسحبت تركيا سفينتها "عروج ريس" المتخصصة بالبحوث الزلزالية. ولم تمضِ مدة قليلة حتى عادت لترسل السفينة نفسها إلى المنطقة، مما أثار عاصفة ثانية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وحذرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تركيا قائلة "نحن (الاتحاد الأوروبي) متفقون على أن التصرفات الأحادية الجانب التي تقوم بها تركيا استفزازية، وأن تركيا بدلاً من خفض التوتر، تصعد الموقف".
وفي وقت لاحق، أصدر وزيرا خارجية ألمانيا وفرنسا بياناً لاذعاً قالا فيه، إنه ستتم متابعة التطورات في الأسابيع المقبلة لمناقشة العقوبات، وإن مجلس الاتحاد الأوروبي قد ينظر في ديسمبر في فرض عقوبات على تركيا إذا "لم تحترم الأخيرة وحدة أراضي اليونان وقبرص".
وتدل اللهجة القاسية للتصريحات الأخيرة، التي أدلى بها كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، على أنها بصدد اتخاذ خطوات مدروسة تم الإعداد مسبقاً لبنيتها التحية، ولهذا يعبرون عن تحذيراتهم بنبرة صارمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع أن كل تفاصيل العقوبات التي سيتم فرضها على تركيا في حال تجاهلت التحذيرات قد تم تحديدها قبل أسبوعين، وإذا لم تستجب أنقرة لهذه التحذيرات فإن الاتحاد الأوروبي سيتخذ خطوة لم يسبق له أن قام بها حتى الآن. وتلك الخطوة هي فرض الحظر على تركيا.
وفي الأسبوع الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، أصدر الاتحاد الأوروبي تقريره السنوي بعنوان "تركيا 2020".
وعلى حد علمي، فإن هذا التقرير هو الأكثر سلبية إلى الآن من بين التقارير التي نشرت بشأن البلدان المرشحة للانضمام إلى الاتحاد، وعليه فإننا نستطيع القول إن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي الآن أصبحت مجرد حبر على الورق، بخاصة في ظل أدائها السيئ في مجالات الديمقراطية وسيادة القانون والحقوق الأساسية واستقلال القضاء.
وقد أصبح الاتحاد الأوروبي ينظر إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم بنظرة شمولية لا تنحصر فحسب بمواقفه في شرق البحر المتوسط، أو تعامله مع اليونان أو قبرص، بل يضيف إلى ذلك مواقفه السياسية في الداخل، التي أدت بتركيا إلى مأزق سياسي في الداخل أيضاً، ولربما ستكون المعاقبة بذلك الحجم.
في هذا التقرير، الذي جاء في 115، صفحة يتكرر الحديث ثماني مرات، عن الناشط المدني عثمان كافالا، الذي ظل في السجن منذ ما يقرب من ثلاث سنوات دون أي سند قانوني، بل بمجرد ادعاءات لا تمت للحقيقة بصلة.
ومن خلال هذا التقرير، يبدو أنه لا يوجد أحد داخل الاتحاد الأوروبي يأخذ التصريحات التي يدلي بها الناطقون باسم "حزب العدالة والتنمية" حول القيم العالمية الأساسية على محمل الجد.
وبالتالي، فإن حكومة حزب العدالة والتنمية هي التي تتحمل المسؤولية عن الفشل في المضي قدماً في عملية عضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن على الرغم من هذا الفشل التاريخي لا يزال المسؤولون في الحزب يدلون بين الحين والآخر بتصريحات، وكأنهم لا يزالون متمسكين بالعضوية، إذ أعلن معظم المتحدثين الرسميين منهم، وعلى رأسهم الرئيس أردوغان، مراراً وتكراراً أن عضوية الاتحاد الأوروبي هي "أولويتهم الاستراتيجية"، ولكن النتيجة التي حققوها على أرض الواقع ليست إلا هزيمة لم يسبق لها مثيل، فالقول مضحك والفعل مُبكٍ.
ومن المعلوم أن الدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي بما فيها تركيا تتلقى الدعم الاقتصادي من الاتحاد، ولكن ممارسات أنقرة الأخيرة التي لا تتفق مع القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي ألجأته إلى اتخاذ القرار بخفض هذا الدعم، ومراجعة القروض التي يقدمها بنك الاستثمار الأوروبي، ولكن القرار لم يدخل حيز التنفيذ بعد. وغالب الظن أن بنك الاستثمار الأوروبي سيقوم بخفض نسبة القروض.
ويجب ألا ننسى أن تركيا تتمتع بمزايا وفرص عدة بسبب ترشحها لعضوية الاتحاد الأوروبي، أهمها تطوير اقتصاد السوق وتفعيله، والقدرة التنافسية الاقتصادية، وشركاتها الكبيرة التي يمكنها المنافسة على نطاق عالمي، فضلاً عن العدد الكبير من الشركات الصغيرة والمتوسطة الفعالة، وامتلاكها التقاليد الراسخة في ريادة الأعمال، والقطاع المصرفي والمالي، ما يمكنها من تقديم خدمات عالية الجودة على نطاق عالمي. وفي ظل هذه الإدارة الفاشلة، ستضيع هذه المزايا تدريجياً.
وهناك شخص أو أكثر من حزب العدالة والتنمية غير مسؤولين عن هذا الفشل غير المسبوق. وعضوية الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل، تأسيس علاقات قوية معه من شأنها أن تجعل من السهل على تركيا الدفاع بفاعلية عن حقوقها في الصراعات الدولية، ولكن التقرير الأخير للاتحاد يظهر بوضوح عواقب سوء علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي.
ومن المثير للقلق أن التصريحات الأخيرة للمسؤولين في الاتحاد تشير إلى أن الأوروبيين بدأوا يتحيزون أكثر فأكثر ضد تركيا في معظم الصراعات، بما في ذلك قضيتها مع اليونان وقبرص، ويعتبرونها طرفاً غير عادل ومنتهكاً لسيادة الآخرين. ومما زاد الطين بلة أن أنقرة بإرسالها سفينة "عروج ريس" مرة ثانية إلى البحر المتوسط بررت لهم هذا الموقف المتحيز.
ومما يؤسف له أن إدارة الرئيس أردوغان كانت قد وقعت في عزلة شبه كلية في الشرق الأوسط والعالم العربي بسبب سياساتها المتهورة. والآن، وبعد أن ضعفت علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي إلى هذه الدرجة، فإن هناك مخاطر كبيرة على مصالح تركيا في الفترة المقبلة.
ولكن يبدو أن حزب العدالة والتنمية لن يؤوب إلى رشده حتى بعد هذه المرحلة، وخير شاهد على ذلك قيام أنقرة باختبار "صواريخ س – 400" الروسية، الأمر الذي خلق أزمة جديدة مع الولايات المتحدة. كما أن استضافة أردوغان للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، على الرغم من تحفظات الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين على ذلك، عكرت علاقة تركيا مع روسيا. وكما قلت في البداية، إن أنقرة دخلت حلقة مفرغة، ولن تنجو منها طالما استمر حزب العدالة والتنمية في السلطة.