لم يكن الملك الإنجليزي هنري الثامن محارباً كبيراً ولا من بناة الدول. كم أنه لم يشتهر بسياسة حكيمة أو بعلاقات دولية تؤهله لتكون له مكانة كبرى في التاريخ. كان قاسياً مزواجاً يمكنه أن يتخلى لأتفه الأسباب عن أي من مستشاريه ولا يحتاج أكثر من غمضة عين ليصدر أقسى الأحكام في حقهم. وهو بهذه الصفات فقط "فتن" الكتاب والفنانين بحيث يكاد يكون من أكثر حكام الإنجليز إلهاماً لهم بدءاً بشكسبير وصولاً إلى الرسام هولباين من دون أن ننسى السينمائيين لاحقاً. ولكن يظل الموسيقي الفرنسي كاميل سان سانس الأكثر إثارة للدهشة من بين الموسيقيين الذين جعلوا لهنري الثامن مكاناً في أعمالهم. فهو كرّس له أوبرا كاملة على قلة ما ألف في حياته من أوبرات. ونكاد نقول إن أوبرا سان سانس هذه تُعتبر عادة من أبرز أعماله في هذا المجال، كما يمكن اعتبارها واحدة من الأعمال الأكثر غوصاً في جزء من حياة هنري الثامن وشخصيته. وكأن سان سانس وضع في هذا العمل كل طاقاته الموسيقية وأفكاره في مجال الفن، وحتى من دون أن يبتغي أن يُحمّل العمل أية رسالة أخلاقية أو سياسية. ففي نهاية المطاف كان سان سانس من المؤمنين بشعار الفن للفن، وبمبدأ فحواه أن رسالة الفن في فنيّته وقدرة الفنان تكمن في إيصال تلك الفنية.
ترك البابا من أجل آن بولين
ينطبق هذا طبعاً على هذه الأوبرا التي تتنافس عادة مع أوبرا "شمشون ودليلة" لسان سانس نفسه على احتلال مكانة متقدمة في أعمال هذا الفنان. ومن هنا ما نلاحظه منذ البداية أن سان سانس لم يؤسس أوبراه هذه على مسرحية شكسبير الأشهر عن حياة هنري الثامن، بل على مسرحية أقل حدة وصعوبة في الوصول إلى الجمهور بتحليل سيكولوجي لشخصية الملك الإنجليزي وتمكنه من قلب ديانة إنجلترا الباباوية بأسرها لمجرد أن يجد سبيله لزواج جديد! هذه المسرحية هي تلك التي كتبها الإسباني كالديرون ديلا باركا، وسينجز سان سانس الموسيقى لها عام 1883 لتقدم للمرة الأولى يوم الثالث من مارس (آذار) من العام نفسه في باريس.
طبعاً لا يمكن لعرض أوبرالي أن يتناول سيرة حياة كاملة كما قد يوحي عنوان أوبرا سان سانس (مع أن عنوان مسرحية كالديرون الأصلية يوحي بما هو أكثر تركيزاً: "الإنشقاق الكنسي في إنجلترا". المهم هنا هو أن العمل يتناول فقط تلك المرحلة من حكم هنري الثامن التي كان يسعى فيها للطلاق من زوجته كاترين أوف آراغون للاقتران بآن بولين التي ستكون دائماً أشهر زوجاته على اعتبار أنها هي التي أثارت صراع الملك مع الكنيسة الكاثوليكية وغضبه على مستشاره الفيلسوف توماس مور وما إلى ذلك من أحداث خطيرة يعالجها الموسيقي بلغة موسيقية تبدو مدهشة في هدوئها وعذوبتها. ويبدو أن ما فرض هذه العذوبة على ألحان المبدع الفرنسي إنما كان تركيز فصول الأوبرا الأربعة على العلاقات المتقلبة مع الكنيسة حيث كان لا بد من هدوء وتكتم ومحاولات جذب هادئة من دون صخب. وهو ما تمكن سان سانس من توفيره لا سيما في تلك الألحان التي سيفخر هو لاحقاً بأنه أتى بها من المخزون التراثي الإنجليزي كما كان سائداً أيام هنري الثامن دامجاً إياه بلحظات تعبيرية يمكن حتى اليوم تأديتها مستقلة فلا تفقد ولو جزءاً من قيمتها. ومن هنا لا شك في أن "هنري الثامن" هي من بين أعمال سان سانس الطويلة زمنياً، العمل الذي لا يزال يقدّم أكثر من غيره بخاصة في ثلاثة بلدان تبدو معنية بالحكاية: بريطانيا بالطبع فهي عن واحد من ملوكها الأكثر شهرة، وفرنسا باعتبار مؤلفها واحداً من أشهر موسيقييها، وإسبانيا لكون العمل مقتبساً من كالديرون ويناصر في محتواه مواقف البابوية وعناد كاترين الأراغونية ضد الملك.
موت في الجزائر
هي إذاً تلك التوليفة التي عرف سان سانس كيف يحوّلها عملاً فنياً يساهم في مكانته التي جعلت كثراً من الفرنسيين يشعرون حين انتشر عند نهاية عام 1921 في باريس نبأ رحيل كاميل سان سانس في الجزائر، بأن صرحاً كبيراً من صروح الموسيقى قد هوى، لكنها في المقابل، كانت قلة من الناس فقط تلك التي تذكّرت أن صاحب "الرقصة المقابرية" الذي مات يومها عن عمر يناهز السادسة والثمانين عاش طوال حياته تحت هاجس "الموت المبكر" الذي كان الأطباء قد تنبأوا له بسبب إصابته بنوع من الصرع منذ كان في سنوات مراهقته. وتلك القلة تحدثت يومها عن معجزة الوجود التي أبقت على قيد الحياة طويلاً، رجلاً مثله كان على الدوام محكوماً بالموت. لكن تلك لم تكن المعجزة الوحيدة في حياة سان سانس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المعجزة الأخرى كمنت في أن ذاك الذي منذ صغره اعتبر صنواً لموزارت في تفتّح عبقريته الموسيقية المبكرة، كان يعتبر في الوقت نفسه طفلاً مخبولاً غير سوي العقل. ومع هذا كان كاميل في منتصف العام الرابع من عمره حين بدأ يقرأ "النوتة" الموسيقية ويكتبها، وكان في الخامسة حين عزف على البيانو للمرة الأولى في حفل عام وخصته صحيفة مشهورة بمقال نقدي، وكان في العاشرة حين عزف أمام لويس - فيليب والعائلة المالكة. وفي كل مرة كان الجميع يبدون عجبهم إزاء تلك الموهبة المتفتحة في غير مكانها.
تربية موسيقية
ولد كاميل سان سانس في 1835 وعاش طفولته يتيماً من ناحية أبيه ما مكّنه من أن يترعرع في كنف أمه وشقيقة جدته وكانت الاثنتان موسيقيتين ماهرتين، ومن هنا وجد في العزف تعويضاً عن ضروب حرمانه، وانطلق تلك الانطلاقة القوية التي ستقوده لاحقاً ليصبح أعظم موسيقي فرنسي في عصره. ومهما يكن فإن سان سانس انصرف، بعد بداياته كعازف، إلى التأليف وهو بعد في السادسة عشرة من عمره حيث كتب "أنشودة إلى سانت - سيسيل" التي تعتبر أول مؤلفاته المعروفة، وهو بعد ذلك بعام كتب سيمفونيته الأولى التي عرفت كيف تثير اهتمام شارل غونو. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف سان سانس عن التأليف، فكتب في شتى المجالات، طوال العقود التالية من السنين، السيمفونيات وموسيقى الحجرة والكونشرتو، حتى وإن كان اكتشاف الجمهور العريض له قد تأخر حتى العام 1871، حين بدأ يركز مكانته وينفصل عن السمعة التي كانت له بوصفه مقلداً لفاغنر، مع أنه بعد مرحلة أخرى من حياته سوف يعتبر مضاداً له، كما لديبوسي من حيث تركيزه على "الفن من أجل الفن" وقوله ذات يوم إننا "حتى حين نذهب إلى عمق الأمور، سندرك كيف أن الشعور العاطفي يضفي على الفن عنصراً خطيراً يقوده إلى حتفه".
ضد فاغنر
والحال أن كاميل سان سانس كان من حقه قول هذا، هو الذي جعل معظم موسيقاه مجرد غوص في الشكل بصرف النظر عن المضمون، ينطبق ذلك بخاصة على ألحانه الأوبرالية التي وضعها لأوبرات مثل "شمشون ودليله" و"إيتيان مارسيل" وطبعاً "هنري الثامن" وغيرها. ففي مثل هذه الأعمال تتبدّى موسيقى سان سانس وصفية خالية من الانفعال، كأنها مجرد تمارين أسلوبية، لكنها رؤيا للمعجزة الأخرى! تبدّت في غاية الجلال، تمارين أعادت للفرنسيين إيمانهم بأنه يمكن لفرنسا، بعدُ، أن تنتج موسيقيين كباراً، في وقت كانت الموسيقى الألمانية والإيطالية، تطغى على كل شيء. مهما يكن، حتى لئن كان سان سانس قد عاش حتى العام 1921 وشُيعت جنازته بما يليق بالكبار، فإن فترة مجده الأساسية كانت الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حيث كتب الأهم بين أعماله من "الكونشرتو من مقام أوت، صغير" (1875) إلى "كونشرتو للبيانو والأوركسترا" (أنهاه في العام 1895)، مروراً بـ "رقصة المقابر" و"القصائد السيمفونية" الأخرى التي كتبها خلال سبعينيات القرن الفائت: "فايتون" و"طفولة هرقل". وبشكل عام كان سان سانس في وترياته وقصائده السيمفونية أكثر تألقاً منه في أوبراته حتى وإن تميّزت "هنري الثامن" واعتُبرت إسهاماً فرنسياً كبيراً في ذلك المضمار. مهما يكن، إذ تأخر الجمهور الفرنسي طويلاً في استقبال تلك الأوبرات لا سيما الأشهر مثل "شمشمون ودليلة" التي قدمت للمرة الأولى في فايمار في ألمانيا وانتظرت عشرة أعوام قبل أن تقدم في فرنسا. والطريف أن سان - سانس الذي شهدت ألمانيا مجده الأوبرالي قبل فرنسا، كان هو الذي طالب خلال الحرب العالمية الأولى بحظر تقديم أعمال الألماني فاغنر في فرنسا اندفاعاً منه وراء شعور قومي فرنسي مباغت.