أردتُ أن أذهب بعيداً من هذه الأجواء القاتمة، التي تستهوي الكثيرين، من الانتخابات وكورونا والسياسة والحروب الدينية... وهلم. دفنتُ رأسي في مكتبتي مثلما يفعل النعام، أو مثل الناس، من يدفنون رؤوسهم في فيسبوك. التقطت كتاباً من زاوية الكتب الأدبية، وكان بختي أن ما بيدي رواية "الوصمة البشرية" لفيليب روث، من ترجمة فاطمة ناعوت. وإن كانت رواية أميركية، فإنها لروائي قرأت كثيراً عنه لكن لسوء الطالع لم أطالع رواية له. انغمست فيها هارباً مني، فوجدتني كمن "هرب من الغول، فوقع في سلال القلوب"، هذا المثل ترددهُ أمي عند كل إحباط تواجهه.
الرواية التي قرأت تدور أحداثها، زمن فضيحة الرئيس بيل كلينتون الجنسية الأشهر في التاريخ. في الرواية أنك "إن لم تكن عشت عام 1998، فإنك لن تكون قادراً على معرفة ماذا يعني ادعاء الورع". لكن فيليب روث روائي حاذق، لذا نسج روايته من أجواء الفترة الزمنية والفضيحة الشهيرة، وغاص في عمق اللحظة التاريخية. البطل أو الشخصية الروائية الرئيسة، أستاذ جامعي في الأدب الإغريقي، فعميد لكلية الآداب في جامعة أميركية: "حينما وظف كولمن، كان واحداً من حفنة يهود قلائل في جامعة أثينا، وكان من بين أوائل اليهود الذين سمح لهم بالتدريس، في قسم الأدب الكلاسيكي في أنحاء أميركا...". كولمن هذا لديه سر حرص على إخفائه حتى عن زوجته وذريته، وهو أنه من أصول زنجية على الرغم من أنه أبيض، وقد واجه كثيراً من الصعاب والمعاناة وحتى الاضطهاد، ليحفظ سره المهين.
كولمن اليهودي من أصل زنجي، نجح في وظيفته وحياته متى نجح في إخفاء عنصره، لكن المفارقة، أنه لما قارب التقاعد اتهم بالعنصرية. مفردة استخدمها في توصيف طالبين زنجيين عنده في الكلية، مفردة التباسية، فسرت بأن مقصده عنصري. ترتب على ذلك أن يتقاعد، أن تموت زوجته كمداً، أن يضطر للعزلة، وغير ذلك. لقد نجح الطالبان المتعطلان عن الدرس والمتغيبان، في توظيف التهمة، التي هرب من أن يوصم بها: زنجي. أي أنه وقع فريسة لما ظن أنه نجح في الهروب منه: المشكل العنصري.
كما حصل معي، فما هربتُ منه وقعت فيه، وعلى ذلك تذكرت واقعة كانت من المساهمين في ثورة فبراير (شباط) 2011 الليبية. الأغلبية لا تعرف أن لهذا اليوم والشهر ذكرى عند الليبيين، فقد عمل العقيد معمر القذافي ديكتاتور ليبيا، على استغلال واقعة الرسوم الدنماركية، التي رسمت حينها لتشويه النبي محمد. إذ كان له مشاكل جمة مع أوروبا، بخاصة مع إيطاليا، فأخرج تظاهرات لشجبها، كما حصل في كثير من الدول الإسلامية. لكن التظاهرة في مدينة بنغازي انقلبت ضده، وقُتل أكثر من 20 متظاهراً، وفق البيان الرسمي. عام 2011، في موجة الربيع العربي، دعا البعض من الشباب الليبيين إلى التظاهر يوم 17 فبراير في الذكرى الخامسة للتظاهر ضد الرسومات الدنماركية، والبقية الباقية معروفة للكثيرين، قتل القذافي وسقط النظام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد قلت إنني أردت الهرب بقراءة رواية "الوصمة البشرية"، فإذا بي أعود إلى حيث هربت، إلى مسألة الرسومات والانتخابات والشعوبية، وجثمت على صدري "رأسمالية الكوارث"، حيث يتم توظيف الكارثة بحرفية وجدارة. فمسألة العنصرية يعاد ترويجها، كما المتاجرة بالدين، واستغلال البشر وتوظيفهم من قبل الساسة، لا يختلف عن استغلالهم من قبل رأسمالية الكوارث، لهذا اختلط الحابل بالنابل، فزاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صب بنزين العلمانية على النار الدينية. كما أعجب ذلك الشعبوي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فنزل إلى الشارع باعتباره خليفة الإمام الخميني، لكن ببدلة علمانية!
في هذه الأجواء العنصرية المستعادة والشعبوية، يبدو فيروس كورونا خير معين لتأجيج الحروب والشعبوية معاً. فكورونا فيروس صيني، لمجابهته لا بد من استعادة الحرب الباردة، التي تعني مُكنة التحشيد مرة ثانية لمواجهة بين الشرق والغرب، المتوازيين اللذين لا يلتقيان أبداً، وهذا زاده عنصري شعبوي، وله تراث وتاريخ.
في هذا الإطار، تابعت الانتخابات الأولى في العالم، انتخابات كورونا 2020 الأميركية، التي يضع قادة العالم وزعماؤه أيديهم على قلوبهم في انتظار نتائجها، كل بحسب حساباته ومراده، كما تتقلب البورصات معها، حتى تضع أوزارها.
كل مرشح وزمرته، جعل من المسألة الكورونية مسألته، وهكذا وظف المرض لغرض الفوز، وكان الحصان الذي تتم المراهنة عليه، في سبق الانتخابات، حتى أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أضحى يصدر الفتاوى الطبية، وتحول رئيساً لطاقم صحي، فمذيعاً لأخبار محطة فيروس كورونا، إلى أن أصاب الفيروس البيت الأبيض، وترمب وآل ترمب. وفي هذه الحالة، قام الممثل الرئيس ترمب بدور المريض، البطل في مسرحية "كوفيد-19".
فكانت انتخابات 2020 انتخابات كورونا، لكن هل ينقلب السحر على الساحر، فيتحوّل الفيروس من مرض أصاب الرئيس، إلى مضاد حيوي لحملته الانتخابية، أم أنه ليس في المرض من سحر، فيكون منافسه جو بايدن بكمامته، زاد حملته، قد أيقظ العقل الأميركي، من هول مصابه الأعتى من كورونا، والمدعو الرئيس ترمب؟
طبعاً كل البشر العاقلين، يعرفون أن مجيء بايدن فقط سيذكّره بملاحظة فيليب روث، في روايته "الوصمة البشرية": "إن لم تكن عشت عام 1998، فإنك لن تكون قادراً على معرفة ماذا يعني ادعاء الورع".