في كتابها البديع والعميق "ميشيما أو رؤيا الفراغ" تنسف الكاتبة الفرنسية - البلجيكية مرغريت يورسينار، بعض الأساطير التي كانت قد حيكت، خلال السنوات اللاحقة عن انتحار زميلها الياباني يوكيو ميشيما في مثل هذا الشهر من عام 1970، من حول ذلك الانتحار، لا سيما منها الأسطورة التي تروي كيف أن الكاتب أنجز كتابة الصفحة الأخيرة من رباعيته الختامية الكبرى "بحر الخصوبة" وأرخ المخطوطة في صباح الخامس والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام، ليرسلها من فوره إلى ناشره، ويتوجه من ثم إلى ثكنة قيادة جيش الدفاع الياباني، حيث قام بـ"انقلابه" الشهير ليقدم فور ذلك على الانتحار بضربة سيف قاطعة كما سنروي بعد قليل.
ليس على تلك الدقة
تقول مرغريت يورسينار، إن ذلك لم يحدث بتلك الدقة، وذلك لأن ميشيما كتب السطور الأخيرة من الرواية قبل ذلك بأشهر، حين كان يمضي إجازة صيفية عند شاطئ مع عائلته، لكنه أحجم عن إرسالها لأسباب غير واضحة على رغم إلحاح الناشر. أما التاريخ الوارد على مغلف المخطوط، فهو تاريخ إرسال هذا الأخير إلى الناشر قبل ساعات من تنفيذ تلك العملية المركبة، التي ربما ستكون أغرب حدث عرفه عالم الأدب في ذلك الزمن، بل ربما على مدى تاريخ الأدب كله. فلئن كان حدثاً عادياً أن ينتحر كاتب ياباني فاز بجائزة نوبل للآداب بعد سنوات قليلة من فوزه، وبخاصة الكاتبان الكبيران كاواباتا، وتانيزاكي، فإنه كان في منتهى العنف والغرابة انتحار يوكيو ميشيما، الذي لم ينلها مع أنه رُشح لها ثلاث مرات وكاد ينالها عام 1968، لولا أن اللجنة فضلت عليه مواطنه كاواباتا في اللحظات الأخيرة، فراح كثر يعتقدون أنه نالها بالفعل. وهو كان حين رحل قبل نصف قرن على تلك الطريقة المريعة التي سنصفها بعد سطور، أصغرهم سناً وأكثرهم حماسة وشهرة.
غزوة فاشية لقاعدة عسكرية
حدث ذلك عند ظهر يوم 25 نوفمبر 1970، حين دخل ميشيما وأربعة من رفاقه إلى معسكر قاعدة إبشيغايا، المقر العام لقوات ما يسمى بالدفاع الذاتي في طوكيو، بذريعة إجراء مقابلة مع قائد المعسكر. وهم ما إن وصلوا إلى مكتبه حتى قيدوه رافعين على الشرفة يافطة تحدد مطالبهم. وكان ميشيما قد أعد بياناً خطابياً يعرض فيه مطالبه السياسية الوطنية، كي يتوجه به إلى جنود المعسكر، حاضاً إياهم على القيام بانقلاب عسكري هدفه قلب النظام "الموالي للأميركيين"، الذي "أمعن في إذلال الأمة اليابانية" وفي "نسف مستقبلها" و"تسليع كل شيء فيها". ولكن حين وقف ميشيما على الشرفة وبدأ يلقي الخطاب فوجئ بزعيق الجنود ساخرين منه ومن خطابه، فما كان منه إلا أن توقف عن الكلام ليدخل إلى المكتب حيث القائد مكبلاً. لكنه لم يقترب منه، بل شرع في تنفيذ الجزء الثاني من خطته، أي الانتحار بضربة سيف على طريقة "السيبوكو". وكانت الخطة تقضي بأن يتولى واحد من رفاق ميشيما الأربعة ضربه بالسيف كما تقضي التقاليد. لكن مازاكاتسو موريتا رفيقه في منظمة الدرع، الذي كان يُفترض به أن يكون هو ضارب السيف، "الهايشاكونين"، تهيب الموقف وتمنّع في الثواني الأخيرة. فما كان من ميشيما نفسه إلا أن التقط السيف مناولاً إياه لرفيق آخر هو هيرويازو كوغا، الذي سدد لقائده ضربة قوية قطعت رأسه، منهية حياة يوكيو ميشيما أحد عظماء الأدب الياباني في القرن العشرين، مطلقة أسطورته الفريدة.
وصية أو لا وصية؟
سيُعرف لاحقاً أن ميشيما قد أنفق السنة الأخيرة من حياته بكاملها وهو يحضّر لتلك العملية، التي كان يتصور أنها ستعيد إلى اليابان مجدها، وأسس في سبيل ذلك منظمة يمينية قومية متطرفة، أطلق عليها اسم "الدرع" واختار لمرافقته في مسعاه الأخير أولئك الرفاق الأربعة، الذين كان مؤمناً بأنهم الأكثر إخلاصاً له وإطاعة لأوامره. والحقيقة أنه لئن كان جنود المعسكر الذين تجمعوا أمام الشرفة قد سخروا من ميشيما و"انقلابه" غير متوقعين منه الإقدام على ضربة "السيبوكو" وغرقوا في الضحك، فيما كان يخطب بهم، فإن الألوف من قراء ميشيما في اليابان وخارجه، راحوا يراجعون رواياته ومسرحياته وسيرة حياته باحثين عن جذور ذلك التصرف. والحقيقة أن كثراً منهم وجدوا ضالتهم في عديد من المشاهد المستقاة من تلك النصوص، ولكن فقط بشكل عرضي في الجزء الثالث من الرباعية التي نتحدث عنها ،ما جعل الباحثين يسعون لربط الرباعية كلها بالحدث الأكبر والنهائي الذي عرفته سيرة الكاتب. بيد أن يورسينار لم تر في بحثها العميق أي رابط بين الانقلاب - الانتحاري، وروح الأجزاء الرائعة الأربعة، التي تتألف منها "بحر الخصوبة"، ما ينفي عن هذه الأخيرة صفة "الوصية الأدبية الفكرية"، التي حاول بعض الباحثين ربطها بها. ما يعني هنا بالطبع أن ميشيما حين انكب على تدبيج نحو 1500 صفحة تتألف منها أجزاء الرباعية، لم يكن يريد ربطها بفعله السياسي بأية حال من الأحوال.
مسار أدبي لتاريخ ياباني
"بحر الخصوبة" رواية رائعة وحسب، بل يمكن اعتبارها قمة أعمال ميشيما إلى جانب "الجناح الذهب" و"هدير الأمواج" و"اعترافات قناع"، بخاصة "البحار الذي لفظه اليم"، وهي أعمال عُرفت على نطاق واسع وتُرجمت إلى عديد من اللغات العالمية، ومنها العربية التي ترجمت "هدير الأمواج" إليها منذ وقت مبكر، وذلك قبل أن تتنبه لجنة نوبل وترشح هذا الكاتب والشاعر المسرحي والممثل السينمائي أيضاً، لجائزتها مرات عديدة غير متوجة إياه على أية حال في أي من تلك المرات.
و"بحر الخصوبة" رباعية ظهرت أجزاؤها تباعاً بين 1965 و1970 حاملة العناوين الآتية، "ثلج الربيع"، و"جياد فالتة"، و"معبد الفجر" و"الملاك في تفتّته". ولعل التيمة الرئيسة في هذا العمل الأدبي الكبير، هي التقمص، حيث تغيب شخصيات بل تموت لتعود بين جزء وآخر متقمصةً، تواصل حياة كانت قد بدأتها وقطعها الموت الأول، وربما لتعود وتموت من جديد. ولعل اللافت هو أن الزمن الذي تتنقل فيه الأحداث من جزء إلى آخر، يمتد من نهاية عصر "الميجي" التي تترافق مع الجزء الأول إلى الربع الثالث من القرن العشرين، حيث تطالعنا اليابان "الحديثة" يابان بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية والغزوة الغربية لها ولقيمها العريقة، التي يراد الآن استعادتها إنما دون جدوى.
في "ثلج الربيع" يطالعنا الرفيقان كيواكي وهوندا، اللذان يقع أولهما في غرام الصبية الحسناء ساتوكو المنذورة أصلاً للزواج من أمير من الأسرة الإمبراطورية. ليأسه ونضوب عواطفه يموت كيواكي واعداً رفيقه بالعودة إلى الحياة الدنيا، فيما تعتزل ساتوكو في أحد الأديرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هوندا يحاول استعادة كيواكي
في "جياد فالتة" نجدنا في عام 1932، وقد أضحى هوندا رب عائلة وقاض في الأربعين، يجلس يوماً لاستذكار حياته السابقة وحياة كيواكي، وقد بات على قناعة بأن هذا الأخير قد تقمص في بلدة تقع على جبل ميوا في شخص مفكر مثالي يناصر الإمبراطور والقيم العريقة، وهذا المثالي إذ يسوءه ما يحدث لليابان، يحاول أن يحضّر مع رفاق له عملاً سياسياً يهدف إلى "تطهير اليابان" ويتضمن انتحاراً على الطريقة التي سيقدم عليها ميشيما لاحقاً!
وفي الجزء الثالث "معبد الفجر" نجدنا مجدداً مع هوندا، ولكن هذه المرة في مقابل أميرة تايلاندية، يؤمن هوندا أنها تقمّص جديد لرفيقه الراحل قبل عقود، وينتهي الأمر (قبل موت الأميرة) بهوندا وقد وقع في غرامها وراحت تكوّن لها هواماته وتخيلاته حول الحب والشيخوخة. ما يقودنا هنا إلى الجزء الرابع والأخير "الملاك في تفتّته" حيث بات هوندا في الثمانين على حافة الخرف، ملاحقاً خيالاً من خيالاته بعد الآخر، حتى يصل إلى ساتوكو في ديرها المنزوي في أعلى الجبال. وهوندا إذ كان ينتظر من ذلك اللقاء أن يكشف له كل الحقائق التي أمضى حياته يبحث عنها، لا يُشفي غليله، بل يختتم كل شيء ببضع عبارات غامضة تتلفظ بها حبيبة رفيقه السابقة. وبهذا يختتم ميشيما (1925 – 1970) ليس هذه الرواية فقط ولا الرباعية، بل مسيرته الأدبية كلها وحياته.