ما الدافع الذي يجعل كاتباً كبيراً من طينة أولئك الذين وصل بهم الأمر إلى حدّ أن يبدأ آخرون بكتابة سيرتهم، يقرر ذات يوم أن ينفق من وقته وجهده ما يكفيه كي يكتب هو سيرة مبدع سبقه؟ بشكل أوضح: ما الذي دفع مثلاً توماس مان لأن يكتب عن غوته، أو أندريه جيد عن دوستويفسكي، أو موريس بارِّيس عن ليوناردو دافنشي؟ يمكننا أن نقول في هذه الحالات أن كتابة الذات كانت الدافع، أي أن الواحد من كتاب القرن العشرين هؤلاء إنما توخى من الكتابة عن سلف كبير له أن يكتب عن ذاته لكن عبر قناع. ففي نهاية الأمر يبدو الواحد منهم منطلقاً من الفكرة التي سيعبر عنها آلان روب – غرييه لاحقاً بقوله: "في نهاية الأمر أنا لم أكتب إلا عن ذاتي".
سيرة الآخر وصورة الذات
ويقيناً في إمكاننا أن نجد تطبيقاً لهذا المبدأ حتى لدى رومان رولان الذي وضع ما يمكننا اعتباره أكثر السير التي كتبت عن بيتهوفن ذاتية. ونتحدث هنا طبعاً عن ذاتية رولان نفسه بقدر ما نتحدث عن ذاتية الموسيقي الأكبر تحديداً. فحين كتب صاحب سلسلة روايات "جان – كريستوف" الشهيرة نصّه الكبير عن بيتهوفن لم يكن في الحقيقة يكتب عن حياة هذا الأخير ولا عن إعجابه به ولا عن تأثره بأعماله الموسيقية ولا حتى تحليلاً لتلك الأعمال؛ بل كان يستعمل بيتهوفن قناعاً يرسم من خلاله صورة لذاته أو على الأقل لكيف كان يريد لذاته أن تكون. ذاتاً مشبعة بما سماه هو نفسه "النفس البطولي"، مصراً منذ الصفحات الأولى على تصوير حس البطولة ليس فقط في أعمال الموسيقي إنما راسماً صورة أكثر تبجيلاً للبطل فيه. صورة تتكرر بين صفحة وصفحة إن لم تكن بين فقرة وفقرة. أما ما كان رومان رولان يعنيه بالبطولة فقد شرحه لنا بنفسه منذ الصفحات الأولى للكتاب حين كتب: "من أسميهم أبطالاً هم فقط أولئك الذين يحملون قلوباً كبيرة"؛ مستطرداً أن بيتهوفن لم يكن أكبر من قدره إلا بفضل بطولته. و"حين يكتب بيتهوفن كونشرتو رائعاً ومتكاملاً تمجيداً للبطل فإنما هو يمجد نفسه كبطل لا يدانيه بطل" بالنسبة إلى الكاتب.
والحقيقة أن رومان رولان كان عند مفتتحات القرن العشرين وإلى جانب أناتول فرانس، واحداً من أوائل المثقفين الملتزمين بحيث إن انطباق المفهوم عليه يكاد يكون مطلقاً، حتى وإن كان جحود التاريخ قد جعل اسم رولان ينطوي في ما يشبه النسيان، منذ رحيله عام 1944. ولعل ما ساعد في استتباب ذلك النسيان رحيل الكاتب الفرنسي الكبير، خلال الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية في وقت كان أقل ما يهم الناس فيه الالتفات إلى رحيل أديب من الأدباء، سواء كان أديباً ملتزماً أم غير ملتزم.
ضحية نسيان طويل
بيد أن المشكلة مع رومان رولان تكمن في أن النسيان ظل يغمر ذكراه طويلاً بعد ذلك، ربما لأن الرسالة الإنسانية الشاملة التي حاول أن يجعل من أدبه وسيلة لإبلاغها لقارئيه، لم تعد على "الموضة" منذ نهاية الحرب الثانية وتغيُّر المقاييس والمفاهيم. مع هذا، بحسب قارئ اليوم أن يقلّب في أعداد مجلة "أوروبا" إحدى أعرق المجلات الأدبية الفرنسية على الإطلاق، حتى يطالعه فيها اسم رومان رولان بوصفه مؤسسها، وبحسبه أن يعود إلى تاريخ الحركة الأدبية الفرنسية في العشرينيات والثلاثينيات ليكتشف أنه كان واحداً من أعلامها، وأن سلسلته الروائية "جان – كريستوف" التي كتبها في العشرية الأولى من ذلك القرن، كانت واحداً من الأعمال الأدبية التي قرئت وانتشرت أكثر من غيرها، وكانت في نهاية الأمر الجسر الأدبي الذي عبرت عليه لغة الأدب ومضمونه من واقعية وطبيعية القرن التاسع عشر إلى حداثة القرن العشرين. والحال أن كون "جان – كريستوف" جسراً هو الذي يفسر سر النسيان الذي يحيط اليوم برومان رولان، النسيان الذي هو على الدوام مصير مبدعي المراحل الانتقالية، والكاتب كان واحداً من أدباء تلك المراحل.
أما إذا شئنا أن نتعمق أكثر في شخصية رومان رولان فربما يكون علينا أن نعود إلى علاقته بالموسيقى التي ما انبنت إلا من خلال اكتشافه بيتهوفن ثم فاغنر تالياً له. ولئن كان رولان قد غاص في الأدب طوال حياته فإن الموسيقى ظلت شغفه الأكبر وتحديداً منذ كان صبياً صغيراً حدث له أن اكتشف روعة "السيمفونية السابعة" فذُهل ورافقه ذلك الذهول طوال حياته ولم يكن كتابه عن "حياة بيتهوفن" سوى إمارة على تشعّب ذلك الذهول في ثنايا كيانه.
استنشاق نفس البطولة
عندما نشر رولان هذا النص عام 1903 في مجلة شارل بيغي "دفاتر الخمس عشرية" أعلن بوضوح كما أشرنا أن غايته دفع القراء إلى أن يستنشقوا نفس البطولة. ومن هنا إذ راح يحكي حكاية بيتهوفن منذ طفولته الحزينة حتى آلامه التي أوصلته إلى موته الكئيب، إنما روى حياة رجل عانى كثيراً وتألم أكثر لكنه عرف كيف يجعل من الفرح موضوعاً أساسياً لموسيقاه، إلى درجة أن تلحينه لـ"نشيد إلى الفرح" الذي اختتم سيمفونيته التاسعة بدا أعظم احتفاء بالحياة وضعه فنان في تاريخ البشرية.
ومن هنا فإن ما أراد رولان أن يعبر عنه لم يكن تاريخ الموسيقى في حياة بيتهوفن، فهو لم يكن عالم موسيقى على الرغم من شغفه بها، وإنما تاريخ صديق وأنيس سبقه في الزمن بقرن تقريباً لكنه عايش حياته يوماً بيوم، وراح يهمس له في كل لحظة أناشيد الفرح وحب الحياة. ومن هنا يبدو لنا الكتاب سيرة لرولان واحتفاله بالحياة بقدر ما يبدو سيرة لبيتهوفن وخلقه للحظات الفرح من قلب العواصف والمآسي. كان كتاباً في الأخوة والتواطؤ العابرين للزمن.
ولد رومان رولان في 1866 في بلدة نيفرني الفرنسية، وتبدّى منذ بداياته كاتباً إنسانياً اشتراكياً محباً للسلام، وهذا ما جعل كتاباته الأولى محور سجالات عنيفة، وصلت إلى حد اتهامه بالخيانة القومية بسبب معارضته الدائمة خوض فرنسا أي حرب من الحروب. أما بالنسبة إلى دراسته، فقد اتجه باكراً إلى التاريخ ثم إلى الموسيقى، وجعل تاريخ الموسيقى موضوع أطروحته التي قدمها في روما حول "تاريخ الأوبرا في إيطاليا قبل لولي وسكارلاتي". والحال أن اكتشافه في ذلك الحين إيطاليا والموسيقى معاً، ألهمه بدايات رواية "جان – كريستوف"، عمله الأكبر، التي سيكتبها بعد حين. ولما عاد من روما إلى باريس كان قد قرر الانخراط في الكتابة المسرحية فكتب سلسلة شكلت مجموعة "مسرح الثورة" كما كتب سير العديد من الفنانين الموسيقيين بخاصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين السياسة وجفاف الإبداع
غير أنه ما إن حل العام 1904 حتى كان رولان قد انصرف كلياً لكتابة رواية "جان – كريستوف" التي لم ينه أجزاءها الأخيرة إلا في عام 1912. وبعدها ما إن كتب روايته القصيرة التالية "كولاس بريتون" المستوحاة من حياة الريف في منطقة بورغينيون الفرنسية (مسقط رأسه) حتى فاجأته الحرب العالمية الأولى، وهو في سويسرا، فراح يكتب المقالات والبيانات المضادة للحرب والتي جمعها في كتاب أثار ضجة عنوانه "فوق الجمع"، غير أن الضجة التي أثارها الكتاب، ومشاعر القوميين العدائية ضده لم تمنع جائزة نوبل الأدبية من أن تُمنح له في العام 1916. وهو بعد انتهاء الحرب راح يخوض معترك السياسة أكثر وأكثر مهتماً بخاصة بمبادئ اللاعنف، وانتهى به الأمر إلى الانخراط في الحزب الشيوعي الفرنسي في العام 1927. غير أن ذلك ترافق لديه مع نوع من الجفاف في موهبته الأدبية إذ إنه لم يتمكن أبداً من كتابة أي شيء يضاهي رواية "جان – كريستوف" التي يمكن اعتبارها في نهاية الأمر نصاً ينتمي إلى السيرة الذاتية ويتألف من عشرة أجزاء. من هنا يبدو أن تأسيسه مجلة "أوروبا" (1922) وكتابته مجموعة من السير البديعة على غرار سيرة بيتهوفن يمكن اعتبارهما تعويضاً على عدم التمكن من الكتابة الإبداعية. ولعل هذا ما أوصل رومان رولان إلى أزمته الحقيقية التي أعادته إلى ريفه حيث أقام السنوات الأخيرة من حياته يقرأ بنهم ويكتب نصوصاً تكشف عن رغبات إبداعية عميقة إنما غير مكتملة.