كان من المعروف عن المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي أن أولى اهتماماته انصبت بخاصة على تاريخ الأدب العربي. ومع هذا يمكن لنا أن نجازف بالقول إن هذا الرجل لو لم يضع في حياته كلها سوى كتابه - الأقل شهرة في أوساط الدارسين العرب على أي حال - "تاريخ الأدب الجغرافي العربي"، لكان من شأن المنصفين أن يقولوا، عن حق، بأنه قد أسدى إلى التراث العربي واحدة من أروع الخدمات. فهذا الكتاب الضخم الذي قام بترجمته إلى العربية الأديب السوداني صلاح الدين عثمان هاشم قبل سنوات عديدة ويبدو غائباً اليوم، يمكن النظر إليه باعتباره أفضل ما كتب، في هذا الموضوع، في اللغات كافة، لأنه من خلال استعراضه لما أطلق عليه اسم الأدب الجغرافي العربي، قدم موسوعة حقيقية دقيقة وعابقة بالمعلومات والسير، والتحليلات لواحد من فنون الكتابة التي شكلت جزءاً أساسياً ليس من التراث العربي الإسلامي فحسب، لكن من الحضارة العربية ككل.
الكاتب يصف كتابه
تحدث كراتشكوفسكي بنفسه عن اشتغاله على هذا الكتاب قائلاً: "إن المكانة المرموقة التي تشغلها الحضارة العربية في تاريخ البشرية لأمر مسلم به من الجميع في عصرنا هذا. وقد وضح بجلاء في الخمسين عاماً الأخيرة فضل العرب في تطوير جميع تلك العلوم التي اشتقت لنفسها طرقاً ومسالك جديدة في العصور الوسطى. ولا زالت حية إلى أيامنا هذه - أعني علوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا- أما في ما يتعلق بالأدب الفني العالمي فإن العرب قد أسهموا فيه بنصيب وافر يمثل جزءاً أساسياً من التراث العام للبشرية كما امتد تأثيرهم كذلك إلى عدد كبير من المصنّفات والفنون الأدبية التي نشأت في بيئات غير عربية.
"وبالطبع ليس في وسع جميع الفنون المختلفة للأدب العربي الحافل أن تدعي لنفسها مكانة واحدة من حيث القيمة. والأهمية العلمية. وإذا كان بعضها مثل علم اللغة والعلوم الشرعية يمثل موضوعاً لدراسات المتخصصين، الأمر الذي لا يمنع بالطبع من أهمية استقراءاتهم في حالات معينة بالنسبة إلى النواحي العريضة في تاريخ الحضارة، إلا أن عدداً من فروع الأدب العربي قد اكتسب أهمية تجاوزت بكثير حدود اختصاصاته الضيقة... ولعل هذا يصدق قبل كل شيء على الأدب التاريخي والجغرافي العربي الذي اعترف العلماء به منذ عهد بعيد بأنه المصدر الأساسي والموثوق فيه في دراسة ماضي العالم الإسلامي. إذ تتوفر فيه مادة لا ينضب معينها للمؤرخ والجغرافي فحسب، بل أيضاً لعلماء الاجتماع والاقتصاد ومؤرخي الأدب والعلم والدين والغويين وعلماء الطبيعة".
جامع العلوم
مهما يكن فإن المؤلف ينطلق في كتابه بالبحث في الجغرافيا عند العرب قبل ظهور المصنّفات الجغرافية، مستنداً بخاصة إلى الشعر الجاهلي وأيام العرب وأخبارهم وأنسابهم راجعاً إلى "ما شحنت به كتب اللغة والتاريخ والأنساب والأدب القديم بأسماء المسالك والمفازات والصحارى والوديان والجبال والدارات والإحساء والحارات"... ولا يكتفي كراتشكوفسكي بتدوين معلومات العرب في الجغرافيا الوصفية لكنه يتعداها إلى الفلك والسماء والنجوم والأنواء وما كان للعرب في ذلك من أساطير وتجارب توارثوها جيلاً بعد جيل. وبنوا عليها كثيراً من تصرفاتهم معتمداً في ذلك على أعمال المستشرق الإيطالي البارز نالينو الذي كان أستاذاً بالجامعة المصرية القديمة... وأخذ عنه أيام إقامته بالشرق العربي من أجل الدراسة والاطلاع على تراث العرب والإسلام. هكذا انطلاقاً من البحث في الجغرافيا في النصوص الجاهلية يغوص الكاتب في دراسة الكيفية التي تطورت بها في التراث العربي تباعاً، في صياغة اعتُمدت من بعده في عدد كبير من كتب لا تخفي دَينها له واعتباره سفراً مؤسساً في مجاله.
هكذا نراه يدرس على التوالي بداية الجغرافيا الرياضية عند العرب ثم جغرافيي المدرسة اليونانية قبل أن يتحول إلى "الجغرافيين اللغويين" ورحالي القرن التاسع، لينتقل في فصل تال إلى الحديث عن المصنّفات العامة في الجغرافيا في ذلك القرن ومن ثمّ إلى الجغرافيا الإقليمية في القرنين التاسع والعاشر، وصولاً إلى المسعودي والرحالة الذين زاروا الأصقاع الشمالية ثم جغرافيي المدرسة الكلاسيكية في القرن العاشر وصولاً إلى البيروني وزملائه من علماء الجغرافيا في القرن الحادي عشر في المشرق فالمغرب ليحط عند ياقوت وغيره من أبناء القرنين الثالث عشر والرابع عشر ما يقوده إلى "موسوعات عصر المماليك" و"أسفار إبن بطوطة" وأخيراً إلى إبن خلدون الذي يفرد له عدداً كبيراً من الصفحات مركزاً على ربطه، وأقرانه من جغرافيي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بين الجغرافيا والتاريخ بوصفهما كلاً لا يتجزأ.
الجغرافيا وشركاؤها
عبر مئات الصفحات التي تشغلها هذه الفصول أحيا المستشرق الروسي فروعاً متعددة من العلوم العربية تدور من حول الجغرافيا بما فيها أدب الرحلات وما أحاط به، بحيث قيل إنه لو لم يضع كراتشكوفسكي سوى هذا الكتاب لكفاه ذلك ليكون إماماً بين المستشرقين.
مع هذا لم يكن "تاريخ الأدب الجغرافي العربي" الكتاب الوحيد الذي وضعه كراتشكوفسكي، بل كان جزءاً من عمل كبير امتد طوال حياة الرجل، نما بكل تواضع وبكل حب للحضارة العربية الإسلامية، بشكل يضع كراتشكوفسكي، من دون أدنى ريب، في مكانة على حدة بين المستشرقين. وهو عند رحيله عن عالمنا عام 1951 عن عمر يناهز الثمانية والستين، لم يلقَ على أي حال من العرب الذين أحبهم ما كان يستحق من تكريم، لأن العهد كان عهد الحرب الباردة، التي كان فيها الأميركيون يؤلبون العرب على كل ما هو سوفياتي، يستوي في ذلك السياسي والفكري، الثقافي والدعائي. ومن هنا ربط كراتشكوفسكي، عربياً، بعجلة السياسة الستالينية وقلّ المحتفون به، إلا في الأوساط العلمية العربية التي كانت عرفت كراتشكوفسكي عن كثب وعاصرته، بخاصة من خلال عضويته، التي كان يفاخر بها، في المجمع العلمي العربي. والحال أن كراتشكوفسكي كان قد وضع سيرته، مختصرة، بنفسه في مجلة ذلك المجمع منذ العام 1927، حيث ذكر أنه ولد في العام 1883 في فيلنا عاصمة لتوانيا، لكنه كان في الثانية من عمره حين رحل والده، واصطحبه معه إلى طشقند، حيث عين الوالد رئيساً لمدرسة المعلمين. وهكذا تفتح وعي كراتشكوفسكي باكراً على العالم الإسلامي من خلال جناحه الآسيوي فكان لتأثيرات تلك المنطقة "وقع شديد في نفسي أيام طفولتي، وأكبر ظني أني غدوت ميالاً إلى الشرق وإن كنت غير مدرك هذا الميل الغريزي" كما يخبرنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انسحار مبكر بالشرق
وكان كراتشكوفسكي في السادسة عشرة حين وعى انجذابه "السحري" نحو الشرق، وهكذا دخل في العام 1901 قسم اللغات الشرقية في جامعة بطرسبرغ فدرس اللغات العربية والفارسية والتركية والتتارية ولغات سامية أخرى، وراح يدرس تاريخ الشرق الإسلامي، مندفعاً بخاصة نحو اللغة العربية التي أحبها أكثر من أية لغة أخرى، ثم بدأ يدرس الآداب العربية بتوسع، كما تعمق في دراسة علوم اللغة العربية على عدد من كبار مستشرقي ومستعربي تلك المرحلة. وكان من أهم أساتذته بارتولد والبارون روزن. وهو بعد تخرجه أمضى نحو سنتين متجولاً بين لبنان وسورية وفلسطين ومصر حيث عمّق معرفته بشعوبها وتراثها. وفي القاهرة تعرف على عدد من كبار المفكرين والعلماء من أمثال جرجي زيدان وأحمد زكي والمستشرق نالينو، وفي فلسطين ولبنان تعرف إلى خليل سكاكيني ولويس شيخو. وبدأ كراتشكوفسكي بوضع مؤلفاته العلمية اعتباراً من العام 1904، ومعظمها حول آداب العرب، وشعر النصارى العرب، وتاريخ الشعر العربي، وركز اهتمامه بخاصة - وكان في ذلك متفرداً بين المستشرقين - حول فكر عصر النهضة العربي وآدابه في القرن التاسع عشر.
وضع كراتشكوفسكي العديد من الكتب، والدراسات المتفرقة، وجمعت السلطات العلمية السوفياتية كتاباته كافة بعد موته في مجموعة ضمّت ستة أجزاء ضخمة أشرف على وضعها عدد ن كبار علماء الاستشراق السوفيات. ولئن كان كراتشكوفسكي وضع العديد من الدراسات، فإن الأديب السوداني صلاح الدين هاشم، مترجم كتابه عن الأدب الجغرافي العربي، يقول إن أهم كتابين له، هما اللذان نالا شهرة عالمية: "مع المخطوطات العربية" الذي صدر عام 1945 و"من تاريخ الاستعراب الروسي"، وصدر في العام 1950 قبل عام من رحيله.