سيدخل الرئيس دونالد ترمب التاريخ من زاويتين إضافيتين، أولاهما إذا أصر على عدم قبول نتيجة الانتخابات الرئاسية حتى 20 يناير (كانون الثاني) المقبل، وثانيهما إذا واصل رفض التنازل عن السلطة للرئيس المنتخب جو بايدن حتى بعد استنفاد جميع التحديات القانونية التي بدأ فريقه القانوني خوض غمارها، فخلال الـ 100 عام الماضية لم يرفض أي مرشح رئاسي الاعتراف بالهزيمة بمجرد فرز جميع الأصوات والانتهاء من الطعون القانونية.
نزاعات قليلة
على مدى التاريخ، شهدت الولايات المتحدة عدداً قليلاً من الانتخابات المتنازع عليها بشدة كان آخرها عام 2000، عندما اتصل نائب الرئيس والمرشح الديموقراطي آل غور بالمرشح الجمهوري جورج دبليو بوش لتهنئته بالفوز والإقرار بالهزيمة في ساعات الفجر الأولى بعد ليلة الانتخابات، قبل أن يعاود الاتصال ويتراجع عن موقفه عندما اقترب الفارق في السباق بشكل غير متوقع.
وخلال الـ 100 عام الأولى بعد تأسيس الولايات المتحدة، لم يكن إعلان الإقرار بالهزيمة جزءاً متعارفاً عليه بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات الرئاسية على الإطلاق، فكيف أصبح تنازل الخاسر عن السباق الانتخابي تقليداً أساسياً يتبعه جميع المرشحين؟
كيف أصبح التنازل معتاداً؟
وكان الانتقال السلمي للسلطة أمراً معتاداً منذ عام 1800، عندما أصبح الرئيس الثاني للبلاد جون آدامز أول من خسر محاولة إعادة انتخابه وغادر بهدوء واشنطن العاصمة على عربة في الصباح الباكر لتجنب حضور حفل تنصيب خليفته توماس جيفرسون. وفي حين أرسل بعض المرشحين الرئاسيين الأوائل في الولايات المتحدة رسائل تهنئة إلى خصومهم، إلا أن تنازل المرشح الخاسر رسمياً للمرشح الفائز بالانتخابات لم تصبح عادة انتخابية حتى عام 1896، عندما هزم الجمهوري ويليام ماكينلي الديموقراطي ويليام جيننغز برايان، إذ كتب برايان في مذكراته لاحقاً أنه بدأ في الاستسلام للخسارة بحلول الساعة الـ 11 مساء من ليلة الانتخابات وزاد هذا الإدراك في الأيام اللاحقة حين أكملت الولايات فرز الأصوات، وبعدما علم برايان أن خسارته كانت مؤكدة، أرسل على الفور برقية إلى منافسه ماكينلي، يهنئه بالفوز قائلاً، "عرضنا موقفنا وبرامجنا على الشعب الأميركي وإرادته قانون".
واعتبر برايان تصرفه هذا أمراً مهذباً تقتضيه الضرورة وليس أمراً استثنائياً، لأن المرشحيّن المتنافسيّن لم يتقاتلا، بل كانا ممثليّن لأفكار سياسية مختلفة، على الناس الاختيار في ما بينها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقليد مستمر
ومنذ ذلك الحين أصبح تنازل المرشح الخاسر لخصمه الفائز عادة وعرفاً سياسياً، وتنازل المرشحون الخاسرون لخصومهم على مدى قرن وربع القرن وحتى الرؤساء الحاليين، فعلى سبيل المثال تنازل الرئيس الجمهوري ويليام هوارد تافت وأقر بالهزيمة عام 1912 أمام الديمقراطي وودرو ويلسون مساء ليلة الانتخابات، وفي عام 1932 أرسل الرئيس الجمهوري هربرت هوفر برقية تهنئة إلى الديموقراطي فرانكلين ديلانو روزفلت في اليوم التالي للانتخابات.
ولأن نائب الرئيس في الدستور الأميركي هو الذي يترأس جلسة الكونغرس التي يتم فيها حساب أصوات المجمع الانتخابي في الأسبوع الأول من يناير (كانون الثاني) بصفته رئيساً لمجلس الشيوخ، كان نائب الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون هو من قاد جلسة عام 1960 التي أكدت خسارته كمرشح جمهوري أمام الديموقراطي جون كينيدي، على الرغم من أن ولاية هاواي أرسلت مجموعتين من الأصوات جرى الطعن بنتائجها لفترة وجيزة، إلا أن نيكسون طلب إضافة أصوات الولاية لخصمه كينيدي بعد موافقة الكونغرس بالإجماع لأنها لم تكن لتغير نتائج الانتخابات، وهو ما يعد مثالاً بليغاً على استقرار النظام الدستوري الأميركي والتقاليد التي يفخر بها الشعب الأميركي في تطوير واحترام المؤسسات.
مرارة الخاسرين
لكن المرشحين الخاسرين لم يكونوا دائماً كرماء أو يتقبلون الهزيمة في الوقت المناسب، ففي عام 1916، استغرق الأمر من الجمهوري تشارلز إيفانز هيوز أسبوعين كاملين لتهنئة الرئيس الديموقراطي وودرو ويلسون بعد سباق انتخابي متقارب استغرق يومين من فرز الأصوات، والتي كانت تميل في البداية لصالح هيوز.
وفي عام 1944 اعترف الجمهوري توماس ديوي بهزيمته أمام الرئيس المنافس فريدريك روزفلت، عبر موجات الأثير على الإذاعة في صباح اليوم التالي للانتخابات، وبذلك أصبح ديوي هو المرشح الوحيد منذ بدأ برايان هذا التقليد الذي لم يتصل بخصمه أو يرسل إليه برقية تهنئة بالفوز يقر فيها بخسارة الانتخابات، الأمر الذي أزعج روزفلت للغاية لأنه اعتبر ذلك نوعاً من الازدراء، لدرجة أنه أرسل لاحقاً برقية لديوي شكره فيها على البيان الذي بثته الإذاعة على الهواء واستمع إليه قبل بضع دقائق.
كما أرجأ المرشح الجمهوري باري غولدووتر، الاعتراف بهزيمته أمام الديموقراطي ليندون جونسون حتى اليوم التالي لانتخابات عام 1964 على الرغم من أن النتائج كانت واضحة في الليلة السابقة، وكان الأميركيون يتوقعون على نطاق واسع أن يتنازل غولدووتر. وما يوضح غضبه من نتيجة الانتخابات أنه كتب في رسالة التهنئة لجونسون أن الحزب الجمهوري سيبقى حزب المعارضة عندما يتطلب الأمر ذلك.
انتخابات متنازع عليها
وحتى السباقات الرئاسية الأكثر إثارة للجدل في التاريخ الأميركي، انتهت باعتراف المرشح الخاسر بالهزيمة، ففي عام 1860، أدرك المرشح الديمقراطي ستيفن دوغلاس أن انتخاب الجمهوري المناهض للعبودية أبراهام لينكولن سيثير غضب الولايات الجنوبية وربما يدفعهم إلى التمرد، وبدلاً من تأجيج تلك المشاعر، بدأ جولة في الولايات الجنوبية للمطالبة بالوحدة، مؤكداً أن لينكولن هو الرئيس المقبل بهدف إنقاذ الاتحاد، ومع ذلك، انفصلت 11 ولاية عن الاتحاد قبل تنصيب لينكولن، ما مهّد الطريق للحرب الأهلية.
وفي عام 1876، فاز الديموقراطي صمويل تيلدن بالتصويت الشعبي لكنه خسر أمام الجمهوري هايز رذرفورد وسط مزاعم بتزوير الناخبين، وانتهى الأمر إلى أن قررت لجنة مشتركة من الحزبين منح الرئاسة إلى هايز مقابل تنازلات من الطرف الأخر.
وفي خطاب ألقاه في يونيو (حزيران 1877، شجب تيلدن خسارته، واعتبر أنها كانت نتيجة للفساد والاحتيال.
علاوة على ذلك، فإن انتخابات عام 2000 التي استمرت 36 يوماً من فرز الأصوات وإعادة التقاضي في الطعون على طول الطريق إلى المحكمة العليا، انتهت بملاحظة إيجابية إذ أوقفت المحكمة العليا عملية إعادة فرز الأصوات في فلوريدا يوم 12 ديسمبر (كانون الأول)، لتسليم الفوز فعلياً لبوش، الذي تقدم بفارق 537 صوتاً، وألقى غور خطاب تنازل متلفزاً من مكتبه في البيت الأبيض، معلناً أنه يجب الآن تنحية الحقد الحزبي جانباً.
ماذا سيحدث إذا استمر رفض ترمب التنازل؟
ولأن عملية الإقرار بالهزيمة ليست جزءاً رسمياً من العملية الانتخابية، لا توجد عواقب قانونية إذا رفض مرشح رئاسي مثل ترمب التنازل، كما أن الامتناع عن الاقرار بالهزيمة والتنازل لا يعني بالضرورة أن الانتخابات ستظل عالقة على الدوام، فإذا طعن مرشح في النتائج، فهناك عملية رسمية بمواعيد نهائية محددة تتوج بتوثيق النتائج الرسمية من الكونغرس.
وفي عام 2020، ينبغي على الولايات المختلفة حلّ أي نزاعات بين فريقي حملة المرشحين بحلول الثامن من ديسمبر حتى يتمكن أعضاء المجمع الانتخابي من الاجتماع والإدلاء بأصواتهم في الأماكن التي يحددها المجلس التشريعي للولاية في 14 ديسمبر.
وهناك احتمال بأن المرشح الخاسر قد يرفض قبول إصدار بيان يعترف فيه بالهزيمة ما قد يؤدي إلى أزمة دستورية، كما هناك احتمال آخر أن الرئيس الحالي دونالد ترمب قد يرفض مغادرة البيت الأبيض، ما كان دافعاً لحملة بايدن كي تصدر بياناً مفاده بأن "حكومة الولايات المتحدة قادرة تماماً على مرافقة المتعدين خارج البيت الأبيض".
ويعبر خبراء قانونيون عن اعتقادهم في أهمية أن يتنازل المرشحون للرئاسة حتى لو لم يكن لذلك عواقب قانونية، لأن الكلمات تساعد الالتزام بالمعايير الانتخابية الراسخة في تعزيز الديمقراطية الأميركية حتى في خضم أكثر انتخاباتها فوضوية وانقساماً.
ويشير الخبراء إلى أنه لا الجيش ولا البحرية هما اللذان يحافظان على تماسك الولايات المتحدة، وإنما فكرة أن الجميع في أميركا تربطهم مبادئ عظيمة، وأن أوجه التشابه بين الأميركيين أكثر إلزاماً من اختلافاتنا.