سجلت العلاقات بين تركيا وفرنسا مستوى منخفضاً جديداً الأسبوع الماضي، إذ انفجر سجال سياسي مرير في وسائل الإعلام، ولد رسوماً كاريكاتيرية مستفزة في المجلات في كل من البلدين، وأجج توتر العلاقات الدينية الأصولية والثقافية والمدنية (العلمانية).
وكانت الدولتان تتشاجران حول عدد من المسائل، بما في ذلك الحقوق البحرية شرق البحر المتوسط وليبيا وسوريا، لكن اندفاع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحماية القيم العلمانية الفرنسية في مواجهة الإسلاميين المتطرفين سرعان ما فاقم توتر العلاقات بينهما.
لقد مر وقت طويل منذ أن تحولت تركيا -على نحو ملحوظ - من سياسة خارجية تنأى عن المشاكل إلى أخرى قوامها التصعيد ومحورها القومية.
ولا يلائم هذا الخلاف الأخير هذه السياسة تماماً فحسب، بل يساعد أيضاً الحكومتين الشعبويتين في أنقرة وباريس معاً في تعزيز قواعدهما الشعبية المحافظة.
ويأتي هذا في وقت تعاني فيه روابط أنقرة بالاتحاد الأوروبي جموداً، وتوتر مسائل ثنائية نفوذ تركيا في المنطقة، ولا يبدو أن الحوار مع الولايات المتحدة سيتعافى، بغض النظر عن النتيجة في الانتخابات الرئاسية. بيد أن العلاقات مع روسيا تبدو إلى الآن متينة.
لكن مع مشاركة موسكو في قضايا البحر المتوسط وليبيا وسوريا، قد لا تبقى الحال (العلاقات مع أنقرة) على ما هي عليه لمدة أطول.
ويعني التوافق الشخصي بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، استبعاد أن نشهد مشاحنات كما جرى بين أنقرة وباريس، لكن العلاقة ليست أكثر من شراكة التقاء مصالح.
"لم تتأهل تركيا يوماً لتكون حليفنا الإستراتيجي"، على حد قول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الشهر الماضي، حين سُئِل في مؤتمر صحافي أن يحدد العلاقة بين تركيا وروسيا. "هي شريك، شريك مقرب جداً. وفي كثير من المجالات، تتخذ هذه الشراكة طابعاً إستراتيجياً".
ويتشارك الطرفان الانطباع نفسه، وفق تأكيد مسؤول حكومي تركي لـ"اندبندنت". لكن الملاحظة جاءت في وقت دب فيه نزاع دبلوماسي بين البلدين حول النزاع المسلح الجاري بين أذربيجان وأرمينيا على منطقة ناغورنو قره باغ المختلف حولها.
وليست هي المرة الأولى التي تقف فيها أنقرة وموسكو في جبهتين متضادتين في نزاعات إقليمية، على غرار ما حصل في سوريا وليبيا أو شرق البحر المتوسط، حين أقرتا بوزن كل منهما (ومصالحه)، ما أسهم في بعض التسويات الجزئية، وإن لم يكن في نتائج حاسمة.
لكن التصعيد الأخير للقتال في القوقاز، حيث يملك الطرفان مصالح جدية وروابط تاريخية قوية، يفرض تحدياً أكبر أمام مستقبل العلاقات الثنائية التي تعافت قبل وقت قريب فقط من ضربة كبيرة أصابتها عام 2015. فقد أصاب العلاقات بين الدولتين جمود آنذاك بعد إسقاط تركيا مقاتلة روسية فوق حدودها مع سوريا. وحظرت موسكو الرحلات الجوية الخاصة إلى تركيا، وأنهت العمل بالسفر إليها من دون تأشيرة، وحدت من حجم الواردات وكلها إجراءات أثرت كثيراً في الاقتصاد التركي.
وحصل التقارب بعد سنة حين اعتذر أردوغان رسمياً، غير عارف بأن محاولة انقلابية كانت تستعر في الخلفية ضد حزب العدالة والتنمية المحافظ دينياً الذي يرأسه.
وحين وقع الانقلاب في يوليو (تموز) الماضي، رد الغرب بحذر إن لم يكن بتأخير كبير، في حين كان بوتين أول زعيم يقف في صف أردوغان.
"حين عانى أردوغان صدمة بعد الانقلاب، كرّس بوتين نفسه حامياً له. وحين امتعض الحلفاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) من فشل الانقلاب، كان بوتين موجوداً إلى جانبه"، على حد تعبير سونر كاغابتاي، مؤلف "إمبراطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"لديهما شراكة وثيقة، لكنها لا تعني أن تركيا وروسيا حليفتان، فالواضح أن الخلافات أكثر من التطابقات (التقاء المصالح وتناسبها)".
ومع ذلك استفاد الطرفان تماماً من التطابقات، فخط الأنابيب "تورك ستريم" يأتي بالغاز الروسي إلى جنوب غربي أوروبا من خلال تجاوز أوكرانيا إلى حد كبير والمرور عبر تركيا، ووقع الطرفان اتفاقية لبناء أول مفاعل للطاقة النووية في تركيا، وثمة استثمارات ثنائية بلغت نحو 20 مليار دولار (حوالى 15.1 مليار جنيه إسترليني)، وكان الروس من الجنسيات القليلة الأولى التي تحدت الجائحة هذا الصيف ودعمت قطاع السياحة التركي المتضرر.
كذلك أبهج شراء أنقرة الأنظمة الروسية المضادة للصواريخ إس-400 موسكو في مقابل مخاطرة تركيا بإزعاج واشنطن، وفتح الباب أمام زعزعة تحالف "ناتو". وأشارت هذه الخطوة أيضاً إلى تحول ممكن من المسار المؤيد للغرب الذي انتهجته تركيا في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن دفء الربيع قد لا يدوم طويلاً، وفق محللين، إذا واصلت تركيا التحرك باندفاع في الحديقة الخلفية التي ورثتها روسيا عن الاتحاد السوفياتي، من خلال تحالفها مع أذربيجان القائم على صلة الدم أو من خلال الاستمرار في التنديد بضم روسيا شبه جزيرة القرم، بعد نزاعها العسكري مع أوكرانيا عام 2014.
وأزعجت روسيا جهود أنقرة لضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي من خلال تنظيم مناورات عسكرية مشتركة، إضافة إلى دعمها لها بمعدات عسكرية متقدمة، على حد قول المحلل السياسي المقيم في موسكو كريم هاس.
"تتعب الحكومة التركية موسكو وتزعجها بسياسات متوائمة مع مصالح دوائر قومية هامشية أكثر منها مع المصالح الوطنية. وهذا قد يساعد أردوغان في توحيد الناخبين القوميين في بلاده، لكنه لن يسهل العلاقات الروسية - التركية البعيدة الأجل.
"وثمة سبب وجيه لحديث المؤسسات البحثية القريبة من الكرملين عن "طواف أردوغان في حقل الألغام الروسي"، وهو حديث يُفهم كتحذير... وأرى أن الأمر لن يطول قبل أن تتعرض العلاقات الثنائية بينهما إلى أزمة كبرى جديدة".
ووفق أيدين سيزغين، وهو سفير سابق في موسكو وسياسي معارض الآن في صفوف حزب الخير، تقصر العبارة "حديقة خلفية" عن وصف أهمية القوقاز في موازين موسكو. و"لن تسمح روسيا أبداً بوجود حكم أو شريك جديد في تلك المنطقة".
ومن جهة أخرى، لم تظهر أنقرة إلى الآن أي نية للنأي عن أذربيجان، حيث استثمرت بكثافة عسكرياً ومالياً معاً، تحت شعار "بلدان اثنان، أمة واحدة" في إشارة إلى صلة الدم التركية المتينة.
بل إن حكومة الرئيس أردوغان مدّت يد التعاون التاريخي التركي، وأعادت التأكيد لباكو أنها ستدعم البلاد "بمواردها كلها وقلبها كله".
وعلى الرغم من أن تشجيعات كهذه كان لها صدى بين الأتراك الذين يتوقون إلى الماضي الإمبراطوري للبلاد والهيمنة العرقية في المنطقة، تتطلب السياسة الخارجية تقييماً أكثر دقة لحجم تركيا الحالية في مقابل قدرتها (الموازنة بين حجمها وقدراتها)، على حد تعبير حسين باجي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة الشرق الأوسط التقنية.
"لا تزال موسكو تتمتع بالقوة لإشعار تركيا بالصدمة. وبغض النظر عن شكل التدخل، على تركيا أن توضح أنها لا تعتزم تغيير الوضع والدور الروسيين التاريخيين هناك، بل وبصفة البلدين طرفين فاعلين مهمين، عليهما أن يسهما معاً في مشاريع مستقبلية تنشئ "بنلوكس لبلدان جنوب القوقاز" (اتحاد سياسي واقتصادي يجمع بين بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ يتألف اسمه من الأحرف الأولى لأسماء هذه الدول)".
وعلى الرغم من أن ما وراء الخطوة لم يتضح بعد، سواء كانت ترمي إلى فتح قنوات حوار غير رسمية أو تحرك محسوب جيداً لإنزال صدمة في الأطراف المعنية، غيّر بوتين موقفه الأسبوع الماضي ودعا الأطراف ذات الصلة كلها، بما في ذلك تركيا، إلى طاولة المفاوضات من أجل التوصل إلى حل دبلوماسي لنزاع ناغورنو قره باغ.
وأشارت الخطوة إلى أن روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، التي تتشارك رئاسة مجموعة مينسك، (المؤسسة عام 1992 لإدارة المفاوضات على اتفاق بين أذربيجان وأرمينيا حول مستقبل ناغورنو قره باغ) لم تعد تملك أدواراً حصرية في اتخاذ القرار.
وقبل أسابيع قليلة، تحدث السفير الأذربيجاني إلى تركيا بثقة عن إمكانية إسهام البلدين في تسوية نهائية للنزاع الدائر منذ 30 سنة.
وقال هزار إبراهيم، متحدثاً في مبنى عثماني عند مضيق البوسفور، وهو ممر مائي دولي كثيراً ما تعبره سفن سلاح البحرية الروسي، "هناك طبعاً مجالات سوء فهم بين تركيا وروسيا. لكنهما حيث يمكنهما التعاون تتحسن الأمور وهذا ما نحتاج إليه، نحتاج إلى تعاون الأطراف المعنية بدلاً من تنافسها مع بعضها بعضاً... وحين تتفق، سيكون ذلك أفضل المتغيرات الخاصة بالأمن الإقليمي".
© The Independent