تحظى الروايات ذات الطابع الغرائبي، بإقبال كبير بين القراء العرب، ربما لتجذر ذلك الطابع في الثقافة العربية عبر "ألف ليلة وليلة" والسير الشعبية، مثل "الزير سالم"، و"عنترة بن شداد"، و"الهلالية"، و"الأميرة ذات الهمة". ومن هذه الزاوية الغرائبية وصل الروائي المصري أحمد مراد إلى الشباب ليكون واحداً من أكثر الكتّاب مبيعاً، ووصل أحد أعماله إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. وفي روايته "لوكاندة بير الوطاويط" (دار الشروق – القاهرة 2020)، يواصل أحمد مراد اعتماده على الفانتازيا الممزوجة بالجريمة.
في عام 2019 وأثناء ترميم "لوكاندة بير الوطاويط" المجاورة لمسجد "أحمد بن طولون" في حي "السيدة زينب"، بالقاهرة، يتم العثور على يوميات تعود إلى سنة 1865، مدفونة وراء حائط الغرفة رقم سبعة في الطابق الثالث من مبنى اللوكاندة، ومحفوظة بشكل جيد.
يضم هذا الكتاب/ الرواية، اليوميات من "34" إلى "53" من دون حذف أو تنقيح، وهي اليوميات الوحيدة التي تصلح للنشر، أرّخ فيها محقق خاص يدعى "سليمان أفندي السيوفي"، لتكليفه بتقصي الحقيقة حول مقتل أحد الباشوات بطريقة شنيعة، وبمسحه مسرح الجريمة، يكتشف أن الوفاة وراءها قتل عمد، وفاعل ترك مع ضحيته تذكاراً، ثم يتبين له أن تلك الجريمة، ليست سوى الجريمة الأولى في سلسلة من الاغتيالات.
وتسمية "بير الوطاويط"، هي نسبة إلى بئر حُفرت في عصر الدولة الإخشيدية في مصر لسقي الناس وملء الأسبلة منها، حيك حولها كثير من الأساطير، ومنها أن مياهها تتوغل حتى تصل إلى بئر شيدها عنترة بن شداد، وكان يجلس بالقرب منها هو وحبيبته عبلة. ومن تلك الأساطير كذلك أن من ينظر في مياه البئر ويلقي عملة نقدية معدنية فيها سيرى وجه حبيبته، إلى أن سقط في هذه البئر أحد الشيوخ ومات فعافها الناس وتركوها حتى جفت وأصبحت مأوى للوطاويط.
هذا الشخص القاطن في لوكاندة الوطاويط، يُكلف بكشف غموض جرائم يرتكبها قاتل متسلسل ضد سبعة أشخاص نافذين، هم أحفاد جماعة سرية تشكلت في عهد محمد علي في إطار صراعه مع المماليك على الحكم، الذي انتهى بمذبحة دبرها لهم في عام 1811. وفي نهاية الأحداث سيكتشف المحقق سليمان أفندي أن القاتل كان ينتقم لمقتل أمه، وكان يخطط كذلك لقتل الخديوي إسماعيل، ووزير داخليته لاظوغلي باشا المعروف بقسوته.
رواية الصوت واحد
في هذه الرواية نرى العالم من جانب السارد المتحكم في كل شيء، ما يجعلها رواية مونولوجية تغيب عنها واحدة من أهم سمات الروايات، التي أعجب بها المُنظِر الروسي ميخائيل باختين في أعمال دويستفسكي، المتمثلة في البولوفينية / أو تعدد الأصوات التي تسعى إلى تقديم وجهات نظر متباينة في قضايا مختلفة، بما يسمح للمتلقي بأن يميل إلى أي جانب من طرفي الصراع حسب قناعاته الشخصية لا قناعات السارد، فضلاً عن أنها تتمايز في مستويات اللغة المستندة إلى تنوع الخلفيات الاجتماعية والثقافية للشخصيات.
تلك المميزات تغيب عن عمل أحمد مراد هذا، فسارده لديه معرفة مطلقة وهو المتحكم في الأحداث، ويسعى إلى إقناع المتلقي برؤيته للعالم، تلك الرؤية التي يفرضها فرضاً، وإن جاءت رواية أخرى مقابلة يقوم بتسفيهها أو تفنيدها من دون أن يترك مساحة للشخصيات الأخرى لتدفع عن نفسها التهم الملقاة على عاتقها. وهكذا نحن أمام أسلوب سردي واحد لا يتغير، ولغة ثابتة ومنظور أيديولوجي ليس له مقابل.
السارد في "لوكاندة بير الوطاويط"، هو سليمان أفندي السيوفي، يسرد عبر مذكراته ما دار معه من أحداث. شخصية فيها من صفات المحقق شارلوك هولمز التي أبدعها الكاتب الأسكتلندي آرثر كونان دويل. السيوفي يساعد عِلية القوم في القاهرة في حل ألغاز الجرائم التي يصعب عليهم تفسيرها. شارلوك هولمز دائماً ما كان يستعين بمعلوماته في مجال الطب الشرعي لحل الجرائم المستعصية، وكذلك سليمان أفندي، فهو خبير في مجال التشريح، إذ إن والده كان يعمل في مشرحة بمستشفى القصر العيني ومنذ طفولته اعتاد التعامل مع الجثث. كما أنه قرأ كثيراً من الكتب في علم التشريح، ما جعله قادراً على حل ألغاز الجرائم عبر دلائل لا ينتبه إليها "القواصة"/ الشرطة.
كما أن مراد يمنح شخصية سليمان أفندي عادة أوروبية لم تكن موجودة في مصر، وهي أنه يمتلك كاميرا لتصوير الموتى. وتظهر صورة البطل مضادة لمصاصي الدماء، فإذا كان هؤلاء يخافون من ضوء الشمس، فهو يخاف من ضوء القمر ويعتزل في بيته عند كماله، ويحتفل في الشوارع مع انزوائه. ويبدو كذلك أنه يعاني من الوسواس القهري، فقد قتل أمه لأنه اعتقد أنها خانت أباه، وقتل جارية شركسية ظاناً أنها مُرسَلة من الخليفة العثماني في إسطنبول لمراقبته، وكذلك يقتل عزيزة الممرضة المرأة المتزوجة لأنها قد خانته، ويدعي أن القاتل الذي يفتش عنه هو كائن أسطوري يدعى "هجين القمر" كان يعيش في الفضاء وحين دُمر كوكبه انتقل إلى القمر الأرضي، وهو سبب في انتشار الأمراض والأوبئة، وأن هذا الهجين يطارده ويريد قتله.
ويعطي أحمد مراد هذا الكائن الهجين صفات من شخصية فرنكشتاين التي ابتكرتها الكاتبة الإنجليزية ماري شيلي، فالهجين شخصية ترتدي أجساد الآخرين بعد أن تطرد ساكنيها منها. ويظن سليمان أفندي أنه نبي مرسل من السماء له معجزاته، ومن معجزاته أن النباتات تكلمه بخاصة شجرة اللبلاب، التي زرعها في بيته، وكذلك تلك الذبابة التي يربيها في بيته ويربطها بسلاسل لتتضخم وتدله على ما يخفى عنه. كما أن بطل الرواية قادر على أن يكلم الموتى، ويؤمن بجميع الديانات السماوية وغير السماوية، فهو راهب في الأديرة يشير بعلامة الصليب على صدره ويتبارك بشجرة مريم، وهو مسلم يردد آيات القرآن حين يداهمه الخوف، وهو صوفي يهرب إلى ساحة الدراويش العميان الذين لا يسألون من أتاهم من أي البلاد هو طالما أنه جاء تائباً!
وشخصية سليمان في أمورها المتعلقة بالأديان، تحيلنا إلى ما قاله محيي الدين بن عربي عن نفسه (لقد صار قلبى قابلاً كل صورة/ فمرعى لغزلان، ودير لرهبان/ وبيت لأوثان، وكعبة طائف/ وألواح توراة، ومصحف قرآن/ أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القرن التاسع عشر
وبخصوص لغة الرواية فإن أحمد مراد نجح في جعلها تعبر عن العصر الذي يتناوله (النصف الثاني من القرن التاسع عشر إبان ولاية إسماعيل باشا في مصر) بألفاظه وتعابيره والأحداث التي جرت فيه. فسليمان أفندي يرفض حفر قناة السويس ويرى أنها ستجر المشاكل على مصر، ويعترض على حياة البذخ، ويناقش قضية تحرير العبيد، كما يرصد الأوبئة التي عصفت بمصر في تلك الآونة، ما بين الكوليرا والطاعون، وما حصدته من عشرات آلاف الأرواح.
ومن الأفكار التي لم تكن موجودة في العصر الذي اختاره الكاتب لروايته، فكرة كره الشعب المصري للخلافة العثمانية واعتبارها احتلالاً، فهذا الوعي الوطني لم يكن موجوداً على الأقل شعبياً في القرن التاسع عشر. وكان من أسباب هزيمة أحمد عرابي أمام الإنجليز في عهد الخديوي توفيق، أن أصدر الباب العالي فرماناً بعصيانه، ما جعل المصريين يتخلون عنه. لم يظهر هذا الوعي الوطني بوضوح إلا في القرن العشرين بخاصة مع ثورة 1919، وظهور عديد ممن ينادون بالهوية المصرية الرافضة للتبعية، وعلى رأسهم أحمد لطفي السيد، الذي لُقب بداعية الوطنية الأول. فالصورة السلبية التي رسمها مراد للأتراك تبدو من تأثير الأحداث الراهنة المتعلقة بالخلاف السياسي المصري التركي. ومن تلك الأمور أيضاً حديثه عن الأوبئة التي جاء ذكرها من وحي وباء كورونا، الذي تفشى في أواخر العام الماضي وما زال العالم يئن تحت وطأته.
وفي شكل عام فإن هذه الرواية يتجلى لقارئها وكأنها محشوة حشواً، بكل ما هو غرائبي وعجائبي، فهو يأخذ كل ما هو غريب من الحضارات المختلفة، تناسخ الأرواح، والحديث مع الموتى، والكواكب والمجرات، الشخصيات الأسطورية في أدغال أفريقيا حيث قبائل تنمو لأفرادها ذيول، وعادة تصوير الموتى، والهجين الذي يسكن أجساد البشر. وهنا يبدو أحمد مراد في نزوعه نحو العجائبية، كحاطب ليل لا يستطيع التمييز بين ما يمكن أن يفيد سرده وما هو حشو زائد لا قيمة له.