في القسم الأكبر من ثقافات العالم يعتبر اهتمام الشعوب بأساطيرها - التي غالبا ما تتخذ شكلا مبسّطا يطلق عليه تجاوزا إسم "فولكلور" - نوعا من التمسك بالهوية المحلية مقابل غزو تتعرض له ثقافة البلد المعني، من جانب ثقافة غازية تحاول أن تغير من هوية البلد لصالح تلك الثقافة الوافدة. صحيح أن العملية كلها تتخذ طابعا هو سياسيّ في جوهره، لكنه يبدو في الوقت نفسه كنوع من نشاط إبداعي. وما يسري على المناطق كلها من العالم يسري هنا بالطبع على أميركا اللاتينية. بيد أن ثمة هنا بعض اختلاف، لا بد من التطرق إليه بين الحين والآخر: فالحال أن الثقافة "الغازية" في هذه المنطقة من العالم هي ثقافة أوروبية ترتبط بالغالبية العظمى من السكان الذين هم سكان أوروبيون في الأصل. فالقارة الأميركية الجنوبية/ اللاتينية حلّ فيها سكان قادمون من مناطق في القارة العجوز حاملين معهم ثقافتهم وأديانهم ومعتقداتهم بحيث راح يبدو بالتدريج وكأننا هنا أمام "صحراء" عمّرها تماما أولئك القادمون إليها. فلم تُطمس حقوق السكان الأصليين الذين ظلوا موجودين ولو على شكل أقليات، وحسب، بل طُمست ثقافاتهم وإبداعاتهم وكأن لا وجود لها. ومن هنا راح كثر من المبدعين المعاصرين يتساءلون عما إذا كانوا قد حلّوا فعلا حين وصلوا إلى هنا، في أرض خاوية. ثم بالتدريج صار البحث عن ثقافة أصيلة مرتبطة بالمكان، فعلا سياسيا بامتياز ونضالا ضد النسيان ومحو الهوية.
وفي هذا السياق يمكن النظر إلى واحد من أول كتب المبدع الغواتيمالي ميغيل آنخيل أستورياس، وضعه في العام 1931 قبل أن ينصرف إلى إبداع رواياته الكبرى ولا سيما "رجال الذرة" و"السيد الرئيس". والكتاب الذي نعنيه هنا ليس رواية بل هو أقرب ما يكون إلى العمل العلمي الأكاديمي حتى وإن كان تأثيره السياسي سيكون كبيرا ويرسخ لأستورياس من الشهرة المبكرة ما سوف يعززه أدبه الذي جعله واحدا من أبرز الفائزين بجائزة نوبل. ما نتحدث عنه هو كتابه "أساطير من غواتيمالا" الذي لا بأس من الإشارة إلى أن أعمال الكاتب الروائية الكبرى قد غطت عليه لاحقا.
فإذا كان أدب أميركا اللاتينية قد عرف منذ سنوات السبعين في العالم فورة مدهشة وضعت في مقدمة الساحة الأدبية العالمية أسماء صارت اليوم لامعة ومقروءة على نطاق واسع، فان جزءاً كبيراً من الفضل في هذا يعود بالطبع إلى أستورياس، الذي كان واحداً من أوائل الكتّاب الذين كشفوا للعالم أجمع عن ثراء تلك المنطقة وإبداعات قدمائها وامكاناتها التجديدية على الصعد كافة. والحال ان استورياس حين نال جائزة نوبل الأدبية في 1967 لم يكن هو نفسه يعرف، على أي حال، أن نيله تلك الجائزة سيكون نقطة الانطلاق لتيار وفورة واهتمام كان من عناوينها غابريال غارسيا ماركيز واليخو كاربانتييه وبابلو نيرودا ثم كارلوس فوينتس وخوان رولفو واوغستو روا باستوس وغيرهم. صحيح أن العالم كان قبل ذلك يعرف بعض الأسماء، ولا سيما اسمي الشيلي بابلو نيرودا والبرازيلي خورخي آمادو، غير أن تلك الأسماء كانت لا تزال معبرة عن ذاتها من دون أن تنطلق شهرتها والاهتمام بها لتشمل القارة اللاتينية بأسرها. مع استورياس اختلفت الأمور لأن الرجل، في كتاباته كما في تقلبات حياته، اعتبر من فوره رمزاً لأميركا اللاتينية كلها واعتبر أدبه نقطة انطلاق لإبداع القارة بأسرها.
حقيقة قارة
غير أنه كان على استورياس أن يكتشف قبل ذلك كله حقيقة القارة «الهندية» ولن يحدث ذلك الإكتشاف إلا في لندن حين زارها في العام 1923، وكان في الرابعة والعشرين من عمره. إذ هناك، وخلال زيارة كان يقوم بها للمتحف البريطاني اكتشف نتاجات إبداع حضارة «المايا». وكان اندهاشه بهذا الاكتشاف هو الذي قاده بعد ذلك إلى باريس حيث درس مع الأستاذ جورج رينو كتاب «بوبول فوه»، (كتاب قدامى المايا المقدس). وهو الكتاب نفسه الذي قام بترجمته إلى الاسبانية للمرة الأولى محدثاً به صدمة في طول أميركا اللاتينية وعرضها. لكن الأهم من ذلك هو أن كتاب "أساطير من غواتيمالا" الذي استغرق اشتغاله عليه سنوات قبل أن يصدره بالفعل في العام 1930 كما أشرنا، سيكون بالحكايات التسع التي يضمها، وباستئنافه، روحيا، النهل من الذهنية الكامنة في خلفية كتاب "بوبول فوه"، دافعا في حينه في عالم الدراسات الأميركية اللاتينية لاندلاع ثورة مماثلة لتلك التي سيحدثها أستورياس نفسه بروايتيه الكبيرتين اللاحقتين بعد ذلك بسنوات قليلة. لماذا؟
ببساطة لأن حكايات الكتاب أو أساطيره تتوقف بإسهاب مستكشفة العوالم الغنية التي كانت تعيشها غواتيمالا قبل الغزو الإسباني وتسبر أغوار علاقة تلك العوالم بالنسيج الوطني لهوية المنطقة. واللافت هنا هو أن أستورياس لم يتعامل مع الحكايات تعامل "المستشرقين" بل تفاعل معها وكأنها جزء من تراث وهوية كل مواطن في هذا البلد سواء كان من السكان "الهنود" الأصليين، أو من الوافدين. وكان من الواضح هنا أن أستورياس قد فُتن بالأساطير التي يرويها رابطا إياها ليس فقط بكتاب بوبول فوه بل كذلك بالكتاب التراثي الآخر "مدونات لوس كاهيل". ومن هنا نراه يشتغل ليس فقط على إعادة إحياء تلك الحكايات بل كذلك، ومن طرف بدا بالغ الأهمية في ذلك الحين، على المزج بين ما كان منتنميا منها إلى العصر ما قبل الكولومبي من ناحية وما نتج عن بدايات العصر الكولونيالي من تطوير محلي لآداب جاء بها الإسبان والسود في ركاب وصولهم إلى ذلك المكان. كان أستورياس يريد أن يقول أن ما يعتبر فولكلورا ليس أدبا جامدا وُضع مرة وإلى الأبد بل هو متن متحرك يستوعب ما يُضاف اليه ويهضمه بحيث يصبح الماضي السحيق والماضي الأجدّ منه كلا واحدا. وبالتالي لئن كان المبدع يدعو الشعوب المقيمة اليوم في المنطقة نفسها إلى استيعاب واستلهام حضارة وثقافة الشعوب السابقة عليه، فإنه يدعو هذه بدورها إلى دمج الجديد الوافد في ثقافتها الأصيلة. والحقيقة أن هذه النزعة التي يمكننا وصفها بـ"التاريخانية" كانت هي الجديد الذي أطل به أستورياس عبر ذلك الكتاب المؤسس الذي اعتبره النقاّد "أول مساهمة كبرى حقيقية في المجال الأنثروبولوجي يقوم بها أدب أميركا الإسبانية". بل حتى "الطهور الأول لما سوف يسمى لاحقا الواقعية السحرية".
شهرة الكاتب المؤسس
صحيح أن «أساطير من غواتيمالا» قد حقق لأستورياس، بعض الشهرة، غير أن الشهرة الكبيرة لن تأته إلا مع نشر روايته الكبيرة الأولى «السيد الرئيس» (1946)، التي تصف الجو الذي يخلقه في البلد حكم ديكتاتور لا نراه في الكتاب إلا لماماً. لكن ظله مسيطر وحاضر في كل مكان. والحال إن هذه الرواية كانت هي التي افتتحت سلسلة الروايات المتحدثة عن حكام ديكتاتوريين، وكانت من أروع وأقسى ما عرف به أدب أميركا اللاتينية من «أنا الأعلى» إلى «خريف البطريرك». وإذا كان استورياس قد افتتح بهذه الرواية، سلسلة الروايات الديكتاتورية، فإنه هو أيضاً الذي افتتح بروايته الكبرى «رجال الذرة» (1949) سلسلة الروايات التي تحاول أن تعيد الاعتبار لنمط الحياة الذي كان الهنود الحمر يعيشونه، بالتناقض مع نمط الحياة الذي فرض عليهم من الخارج، عن طريق الغزاة البيض، ثم عن طريق الشركات الاحتكارية.
مهما يكن من أمر، يبقى أن استورياس الذي يمكن أن يقال عنه أنه الكاتب الذي «اخترع» أدب أميركا اللاتينية بتوجهه نحو «الواقعية السحرية»، كان من أوائل الكتّاب الذين كرسوا إبداعهم - الغني في فنيته على أي حال - من أجل إعادة الاعتبار لأساطير القارة وأنماط حياتها وتاريخ سكانها الأصليين المنسي. من هنا اعتبر فوزه بجائزة نوبل في 1967 انتصاراً كبيراً للقارة، كما اعتبرت وفاته في العام 1974 خسارة كبيرة حتى لو كانت تلك المرحلة قد شهدت ازدهار كتابات أميركية لاتينية بعضها يفوق في أهميته كتابات استورياس.