أميركا في مأزق ديمقراطي هو عملياً مأزق الرئيس دونالد ترمب: رفض الاعتراف بخسارة المعركة وتسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب جو بايدن. وليس في أميركا والعالم من يعرف ما الذي يمكن أن يفعله بالسلطة رئيس خائف ويائس في المدة الباقية من ولايته حتى 20 يناير (كانون الثاني) المقبل. فلا هو احترم في سلوكه تقاليد الرؤساء وراعى في قراراته الحكمة التقليدية. ولا هو يتصرف الآن على أساس أنه صار "بطة عرجاء" بحسب التقليد الأميركي، بحيث يمتنع عن اتخاذ قرارات دراماتيكية من دون التشاور مع الرئيس المنتخب.
لكن الواقع أن اللعبة انتهت، وأن "الإستابلشمنت" التي تحمي مصالح القوة العظمى تفرض الرضوخ على من يتحدّاها، والكل يعرف ما الذي سيبدأ بفعله بايدن منذ اليوم الأول في المكتب البيضاوي، ومختصره هو إلغاء معظم ما فعله ترمب ضمن شعار "أميركا أولاً" الذي كانت ترجمته العملية "أميركا وحيدة" كما قال بايدن.
ديفيد سينجر في "نيويورك تايمز" طالب بـ"إنهاء جدران أميركا أولاً"، وفريق عمل بايدن، وهو من المحترفين، بدأ يضع الخطط للعودة إلى "التحالفات" التي سمّاها والتر ليبمان "درع الجمهورية" ومواجهة الخصوم.
ما فعله ترمب
فما فعله ترمب هو إهانة الحلفاء في أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وكندا والمكسيك، والتودّد إلى الخصوم في الصين وروسيا وكوريا الشمالية، والنتيجة خسارة صدقية أميركا لدى الحلفاء، واستهتار الخصوم بها إلى حدّ أن سياسة ترمب الارتجالية في التودّد والخصومة أدت الى الإضرار بالمصالح الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في محاضرة أمام معهد "تشاتام هاوس" في لندن، قال أنطوني بلينكن، وهو من فريق بايدن، إن العالم لا يزال يحتاج إلى أميركا التي تحتاج هي أيضاً إليه، هي لعبت على مدى 75 عاماً "الدور القيادي في تنظيم العالم، كما صنعت كثيراً من الأخطاء"، وعندما "حاولت دول أخرى اللعب مكان أميركا، أو أسوأ لا أحد حاول، انتهينا في فراغ مملوء بأحداث سيّئة"، لكن العودة إلى العمل كأنّ العالم لا يزال في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أو حتى ما بعد الحرب الباردة، لم تعد ممكنة. حتى العودة إلى الوضع الذي كان في أميركا والعالم قبل مجيء ترمب إلى البيت الأبيض تبدو تبسيطاً لوضع متغير ومعقد. فالنظام الليبرالي العالمي الذي "قادته أميركا لن يُستعاد بعد رحيل ترمب، لأنه شذوذ تاريخي جاء خلال ظروف وشروط تغيرت"، بحسب ميرا راب هوبر وريبيكا فريدمان ليسنر في "فورين أفيرز"، وهما تركّزان على خصمين لأميركا في اللعبة الجيوسياسية، "روسيا كقوة ثأر، والصين كمنافس حقيقي"، في حين يتحدث الصحافي الألماني جوزف جوف عن "عالم قوتين ونصف" أي أن أميركا والصين قوتان وروسيا نصف قوة.
"المنافس الاستراتيجي"
بايدن يضع الصين في مرتبة "المنافس الاستراتيجي" لا "العدو الاستراتيجي"، ويتوعد "روسيا بدفع ثمن" تدخلها في الانتخابات الأميركية ضده لمصلحة ترمب. لكن اللعبة مع الصين وروسيا تختلف عن اللعبة مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، الاتحاد السوفياتي كان قوة عظمى مقابل أميركا والغرب من خارج النظام العالمي الليبرالي، مع جاذبية أيديولوجية والعمل كقوة تغيير ثوري في العالم. أما الصين وروسيا، فإنهما لاعبان مشاركان في النظام العالمي وعضوان في منظمة التجارة العالمية. الصين تملك القوة الناعمة وتُنمّي القوة الخشنة، وتستعد، لا فقط لتصبح الاقتصاد الأول قبل الاقتصاد الأميركي بل أيضاً لأن تكمل عام 2035 "التحديث الثوري" قبل سنوات من الحدّ الذي رسمه دينغ شياوبنغ في الثمانينيات، وهو عام 2050.
لم تعد قوة تغيير
وروسيا لم تعد قوة تغيير بل صارت قوة ستاتيكو، وهي لا تملك حالياً القوة الناعمة التي كانت لها أيام القياصرة وأيام السوفيات، لكنها تستخدم قوتها الخشنة بشكل ذكي في صراعات أكثر من بلد. أما أميركا التي تملك القوة الخشنة والقوة الناعمة أكثر من أي بلد آخر، فإنها تمارس سياسة القوة بشكل خاطئ أحياناً، بحيث تفيد أعداءها كما فعلت في غزو أفغانستان والعراق والحرب التجارية الأخيرة مع الصين.
لكن اللعبة لم تبقَ بين الكبار فقط، فهناك قوى إقليمية تلعب أدواراً تتجاوز حدودها مثل إيران وتركيا وإسرائيل، وبايدن يريد ضبط هذه القوى وهو يخوض التنافس الجيوسياسي مع الكبار. ونصيحة بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي في رئاسة باراك أوباما له هي "ومن المهم والحيوي رؤية فرص، لا في الماضي بل في الحاضر". وبايدن أعتق في الخبرة من كل اللاعبين في الساحة.