يمكن القول إن الشاعر المصري أمجد ريان هو أكثر شعراء جيله تجريباً، فقد بدأ شاعراً تفعيلياً وصاحب صوت متميز، وظل لسنوات مخلصاً لما استقرت عليه شعرية السبعينيات من جماليات تعتمد على تعدد دلالات النص الشعري وحداثة الصورة الشعرية والاحتفاء بالمجاز. لكنه انقلب فجأة على كل هذا مُجدِداً رؤاه الشعرية ومتأثراً بما استجدَّ على يد شعراء التسعينيات من حيث التقشف اللغوي – إن صحَّ التعبير – والاهتمام بالتفاصيل والمشاهدات اليومية والتبشير بما بعد الحداثة التى لم يبدع – فحسب – في إطار جمالياتها؛ بل أصبح منظراً لها فى كتبه النقدية ومتابعاً لشعرائها؛ الأمر الذي جعله أقرب إلى الأب الروحي لهذا الجيل.
ولعل ديوانه "تي شيرت واسع بكل الألوان" الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة في القاهرة، هو شاهد قوي على ذلك، بدءاً من العنوان غير المعتاد. وهو ما يضع أيدينا على لغته التي تمزج بين الفصحى والمعرَّبة والدارجة التداولية، كما يبدو فى الكثير من سطور الديوان مثل قوله: "يتمشى الإنسان/ ويفكر فى أية طريقة/ أو أي حل/ ولكن أصوات "كلاكسات" العربات/ آتية من هنا ومن هناك"، أو: "أضع النظارة فوق عيني/ وأنظر لشاشة "اللاب توب" في يأس"، أو: "أضع الطعام على "رُخَامة" المطبخ/ والشقة صامتة تماماً/ و"الموبيليا" كلها" سُكتُم بُكتُم"، أو: "المرأة تمشي بطيئة "بالشبشب" المفتوح".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فتنة العصر الرقمي
الكلمات بين القوسين تتوزع على المعربة والعامية ناهيك عن الفصحى التي تمثل متن القصيدة، فما الذي يدفع الشاعر إلى ذلك؟ هل لأنه لا يستطيع امتلاك اللغة كما يقول: "أنظر لشاشة "اللاب توب" في يأسٍ/ متأكداً أنني لا أملك اللغة ولن أملكها"؟ أم لأنه يريد أن يصطنع لغة شفهية تواصلية عارية من المجاز البلاغى القديم؟ هذه كلها تفسيرات واردة، خاصة أن "الكلام دائرة مفرغة/ واللغة دائماً حمَّالة أوجه/ ونحن المساكين نتصور في كل مرة أن اللغة ستصل بنا إلى بر الأمان/ فإذا بنا في قلب المتاهة".
لا شك في أن هذه المتاهة ناتجة عن طبيعة العصر الرقمي وغلبة النزعة الاستهلاكية، يقول: "في هذا العصر الرقمي/ الفارغ المحتوى/ أنا مجبرٌ على المقارنات بين أجساد البنات الفاتنات". هذا العصر الرقمي الذي يؤدي إلى تشيؤ الإنسان، أصبح كل شىء فيه قابلاً للبيع والشراء فـ "الخيالات صارت تجارية/ والمرايا والزحام العنيف/ الزحام التجاري يصب من الشارع العريض للميدان/ ومن الميدان للشارع العريض". لقد أصبحت التجارة صرعة العصر، وإذا كانت اللغة عاجزة عن الوصول إلى معنى لهذا اللهاث الدائم، فإن الشاعر يستعيض عنها بلغة الجسد بحيث يصبح البشر قادرين "على ربط الخيال بحركات الجسد وبإيماءاته". ولهذا يجعل الشاعر فهم لغة الجسد مقدمة ضرورية لبدء أي نقاش، يقول: "افهموا لغة الجسد جيداً وبعد ذلك تعالوا لنتناقش".
لكن الغرق في الشكليات يجعل الإنسان جاهلاً بذاته، فلو سأل نفسه بصدق "من أنا؟ وما الذي أفعله؟ قد يصاب بالفزع". والفزع من المعرفة يذكرنا بأوديب الذي كانت معرفته سبباً في مأساته. وتستدعي المتاهة ما يقع في دائرتها الدلالية مثل الشعور بالفشل في كل شىء. وهكذا "تبقى بصمة الهزيمة/ كامنةً فى الأعماق" ويبقى الشعور بالغياب والعبث واليأس قائماً ويصبح الظلام الذي يتسع كل يوم أكثر هيمنة. ويرسم الشاعر صورة بالغة التأثير للحزن الذي يسيطر على الجميع بقوله: "الحزن وتدٌ مدقوقٌ في عظامنا/ الحزن محبوكٌ على قدر حياتنا".
قضايا وتفاصيل
ترجع هذه المشاعر كلها إلى ما يحيط بالشاعر من مفارقات يمكن أن نمثل لها بقوله: "الرجال يضحكون/ والنساء يضحكن/ والأطفال يضحكون/ ولا أحد يعرف الكارثة التى ستحل بنا بعد قليل". أو الجمع بين القضايا الكبرى والتفاصيل الصغيرة في قوله: "أنا حزين لأجل قضايا كبرى/ ولأجل تفاصيل شديدة الصغر". وفي سطور أخرى يجعل خلفية المشهد موازية للدلالة العامة التي يريدها مثل قوله "المرأة التي تحكي قصة حياتها باكية/ وخلفها على السور/ قطٌ ذكر طويل بأقدام قصيرة يهاجم القطة الأنثى". وفي شواهد أخرى يوظف الكناية كما في قوله "هناك في البلاد البعيدة/ المدن توحشَت/ وعروسة بلاستيكية محطَّمة الذراعين/ ملقاة في التراب". فهذه العروس هي كناية عن توحش المدن الذي يشير إليها. كما يوظف الشاعر التناص في قوله: "تعبٌ هي الحياة وألم في بطن الساق/ لكثرة المشي"، بحيث تتناص مع قول المعري "تعبٌ كلها الحياة...". والتناص مع قصة سندريلا في قوله "كل امرأة تشعرني بأنها هي التي فقدت فردة الحذاء/ وأن أتباع الأمير سيعرفون مكانها لتنال الجائزة الكبرى".
إيقاع التكرار
هناك أيضاً ما يمكن أن نسميه "إيقاع التكرار" حين يقول في قصيدة "خرجتُ بالأمس لأشتري كارت المحمول": "اليوم دائرة مفرغة"، و"الكلام دائرة مفرغة"، و"الضوء دائرة مفرغة". وهذا التكرار يصنع إيقاعاً تستبدله قصيدة النثر بالإيقاع التفعيلي. وقد ذكرنا أن شعرية أمجد ريان لا تبتعد كلية عن القضايا الكبرى بل تجاور بينها وبين التفاصيل الصغيرة وتجعل من هذه التفاصيل مدخلاً لما تريد طرحه من قضايا وجودية. وهذا ما نلاحظه أيضاً في قصيدة "أحياناً أتصور أن الحياة محض سراب"، حين يجاور بين قراءته لرواية لباولو كويلو وما فيها من قضايا وحركة طفلين، أي أنه ينتقل من الخيالي الفني إلى الواقعي حين يقول: "في الوقت الذي كنتُ أقرأ فيه رواية باولو كويلو/ كان هناك طفلان يضع كل منهما ذراعه على كتف الآخر/ ويمشيان في الشارع العريض المزدحم/ كأنهما متفقان تماماً/ على مواجهة شراسة الحياة".
وهذا معناه أن أمجد ريان لم يتخلص تماماً من الإرث السبعيني، بل مزج بين بعض ملامحه وملامح القصيدة التسعينية برهافة واضحة.