يعيش الاقتصاد السوداني وضعاً مأسوياً، وحالة من عدم التوازن، وتحاصره أزمات في مجالات حيوية كالوقود والخبز والدواء، فضلاً عن استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسية بمعدلات كبيرة تفوق مقدرات المواطنين ذوي الدخل العادي، بسب انخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار، ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم والبطالة بنسب غير مسبوقة.
يأتي ذلك في وقت تتهيأ الحكومة الانتقالية إلى تنفيذ متطلبات اتفاقية السلام التي وقعتها أخيراً مع الحركات المسلحة، ما سيلقي أعباء كبيرة وإضافية على ميزانية البلاد للعام 2021، في ظل مساعيها الحثيثة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي من خلال تنفيذ عدد من المشروعات التنموية، والبرامج الاقتصادية الفاعلة حتى يعود الاقتصاد إلى وضعه الطبيعي.
لكن كيف ينظر المراقبون الاقتصاديون لهذا الواقع وإمكانية معالجته، مع الإيفاء بالالتزامات المطلوبة حتى يتحقق الاستقرار والسلام في البلد؟
دعم خارجي واضح
قال المحلل المالي السوداني طه حسين، "لن يتحسن الوضع الاقتصادي إلا بالحصول على دعم خارجي واضح، للتدهور الكبير والبالغ الأثر، وبحسب واقع البيانات الاقتصادية الصادرة من الجهات المتخصصة، بلغ التضخم حالياً 229 في المئة، لكن في واقع السوق المباشرة، نجد أن الأسعار تضاعفت 10 أضعاف، والزيادة على مدار الساعة، في حين بلغ سعر صرف الجنيه مقابل الدولار في السوق الموازية 250 جنيهاً، ويتوقع أن يصل إلى 280 نهاية 2020، بينما يبلغ سعر الدولار في البنوك الرسمية 55، بالتالي لا بد من حلول جذرية لإصلاح هذا الوضع الخطير في ظل التأثيرات المستمرة لناحية تأمين المرتبات لموظفي الدولة في قطاعاتها المختلفة، وما يصاحبها من زيادات، فضلاً عن التزامات الصرف الأخرى".
ولفت حسين إلى أن إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب يعد مؤشراً جيداً للحركة الاقتصادية في البلاد، لكن المسألة تحتاج إلى زمن لطبيعة المجتمع الدولي، كما أن عدم جاهزية البنية التحتية له أثر كبير في تدني الحركة الاقتصادية من ناحية الموانئ والطرق والخدمات وغيرها، غير أن موازنة العام 2020 التي تم تعديلها مرتين حصل فيها انحراف كبير بسبب طباعة النقود، ففي الموازنة الأولى التي تم تعديلها لهذا العام طبعت 58 مليار جنيه وزادت عنها بنسبة 200 في المئة، أما الثانية المعدلة فارتفع حجم طباعة النقود إلى 120 مليار جنيه، وبالتالي كان الاتجاه نحو طباعة النقود مسألة سلبية بالنسبة للاقتصاد الوطني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا توجه نحو التنمية
أضاف المحلل المالي حسين، "من مشكلات الاقتصاد أن ليس هناك توجه نحو التنمية حتى الآن، ولا مشروعات تنموية ملموسة على أرض الواقع، فضلاً عن تدني الإنتاج في شتى القطاعات، وتعطل الموانئ ما كان له تأثير سلبي في الصادرات، فالميناء الرئيسي للبلاد لا يساعد في حركة الصادرات، وقد تأخذ الإجراءات ثلاثة أشهر بدلاً من ثلاثة أسابيع. كما أن المؤشرات تجاه الضرائب تشير إلى أنها لن تكون بالحجم الكبير لكي تغطي المتطلبات، لذلك من الضروري البحث عن حلول من خلال اتّباع منظومة الحكومة الإلكترونية كما حدث في المحاكم لضمان دخول الفاقد الكبير من الموارد في الخزانة".
وأشار حسين إلى التحديات الكبيرة التي تواجه موازنة العام 2021 التي تتمثل في متطلبات تنفيذ اتفاقية السلام الموقعة بين الحكومة السودانية وحاملي السلاح في الثالث من أكتوبر (تشرين) الماضي في العاصمة جوبا، من خلال حجم الوزارات الجديدة، وأعداد الجيوش التي سيتم استيعابها في المنظومة العسكرية، وقال، "واضح أن هناك أعباء إضافية على موازنة العام المقبل من ناحية زيادة بنود الصرف ما يتطلب توزيع معدلاتها بشكل مقبول، وتفادي السياسات السابقة غير الممنهجة، حتى لا تؤثر في المواطن. كما تشكل البطالة تحدياً مهماً فهناك حوالى ثمانية ملايين مواطن من إجمالي 40 مليوناً بحاجة إلى وظيفة، ما يستدعي إيجاد برامج عاجلة لهم".
وأكد أن لا حل إلا باستقطاب دعم خارجي سريع لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتردي، فالسودان بحاجة الآن إلى ما بين أربعة إلى ستة مليارات دولار لإحداث استقرار وتأمين السلع الاستراتيجية خصوصاً الدقيق والأدوية، ولا يتم تأمينه بسرعة إلا من خلال دول الخليج، لأن الغرب ممثلاً في أميركا وأوروبا يعطي المبالغ في شكل برامج وأنظمة، وغالباً ما تكون فترتها الزمنية غير سريعة لمعالجة الوضع المستفحل.
ترشيد الإنفاق
في المقابل، أوضح الباحث الاقتصادي السوداني هيثم محمد فتحي أن الانعكاسات السلبية على الوضع الاقتصادي عالمياً، وبالنسبة للسودان خصوصاً نتيجة كورونا ما زالت قائمة، وانخفضت الإيرادات العامة حوالى 40 في المئة، وزاد حجم الإنفاق العام لمواجهة ظروف الجائحة، وما خلفته من تداعيات، فضلاً عن استكمال مستحقات اتفاقية السلام التي تشمل العديد من البنود التي تتطلب مبالغ طائلة، متوقعاً أن يستمر العجز العام، إلا أنه من أهم التوجهات المطلوبة ترشيد الإنفاق الحكومي، وقد يكون صعباً في ظل توسيع قاعدة المشاركة في أجهزة الحكم عبر الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية السلام، إضافة إلى استمرار إصلاح دعم الكهرباء والدقيق، والتعديل التدريجي لأسعار الصرف، والدولار الجمركي للوصول إلى السعر الحقيقي.
أضاف الباحث، أن من التوجهات المطلوبة، إيقاف تدهور الاقتصاد الوطني، ووقف تراجع الجنية أمام العملات الأجنبية، لأن تراجعه يرفع معدل التضخم لقلة المنتجات، والاعتماد على الواردات في كثير من احتياجات المواطن. وبيّن أن المؤشرات الكلية للاقتصاد أظهرت المعاناة الحقيقية التي تتمثل في معدلات النمو السالبة والبطالة المرتفعة، فضلاً عن التصاعد المستمر للتضخم، منوهاً إلى أن الاقتصاد نما خلال الفترة من 1990 إلى 2018 في المتوسط بمعدل 4.7 في المئة، بينما تراجع في العام 2018 بمعدل -2.2، ما يعني انخفاض حركة النشاط الاقتصادي بوجه عام على مستوى البلاد، بيد أن صندوق النقد الدولي يتوقع استمرار الانكماش حتى عام 2021 واستحالة عودة النمو قريباً، ما سينعكس على جميع المؤشرات خصوصاً معدلات التضخم والبطالة.
رفع الحد الأدنى للأجور
وأشار إلى أن موازنة العام 2021 ستعمل على رفع مخصصات الصحة والتعليم، والالتزام بمجانية التعليم الأساسي، والالتزام بمجانية العلاج في الطوارئ والمستشفيات الحكومية، فضلاً عن ترسيخ السلام بمشروعات خدمية في الولايات التي تضررت من الحرب الأهلية، كما تم أيضاً رفع الحد الأدنى للأجور إلى أكثر من الضعف بعد مضاعفة بند الأجور، بالتالي، فإن تحقيق هذه المتطلبات قد يكون صعباً في ظل ما تشهده البلاد من وضع اقتصادي مترد، وما تمر به الدول المانحة من ظروف صعبة لا سيما الدول الخليجية التي تعتبر المصدر الأساسي للمنح، واتجاهها لمزيد من التعقيد بسبب انخفاض النفط ومعالجة آثار كورونا.
أضف محمد فتحي، نجد أيضاً صعوبة في تحقيق الهيئات والشركات الحكومية في البلاد أرباحاً نتيجة حال الانكماش المتوقعة في الناتج المحلي الإجمالي، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطن بسبب ارتفاع نسب التضخم، إلا في حال اتجاه الحكومة السودانية إلى خصخصة جزء مقدر من هذه الشركات لتوفير أموال معتبرة من العوائد، ورأى أنه لا بد من التوسع في المبادرات الداعمة للمواطن خصوصاً المحدودي الدخل في شتى المجالات، والعمل على دعم المنظومة الصحية، وتطويرها، وتوفير الرعاية وما يحدث من مستجدات مرضية سواء كورونا أو غيرها.
قواعد موازنة 2021
عقدت اللجان الفنية للقطاعات الوزارية في مجلس الوزراء الأحد 15 نوفمبر (تشرين الثاني) اجتماعاً مشتركاً ناقش أسس الموازنة العامة وقواعدها للعام المالي 2021 قدمتها وكيلة وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي آمنة ابكر عبد الرسول.
تهدف الموازنة إلى السعي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي للدولة مع مراعاة متطلبات تحقيق السلام العادل والشامل والمستدام وتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، وتحقيق معدلات نمو للناتج المحلي الإجمالي وتخفيض نسبة العجز الكلي في الحدود الآمنة وتنويع مصادر الدخل القومي والتنسيق بين السياسات المالية والنقدية لكبح جماح التضخم ودفع عجلة التنمية، فضلاً عن تقليل أثر الإصلاحات الاقتصادية في الفئات والشرائح الضعيفة من خلال توفير خدمات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والدعم المباشر.
وتضمنت القواعد الخاصة بهذه الموازنة جملة من السياسات المالية أهمها سياسات إصلاح المالية العامة من خلال تطوير مصادر الإيرادات وتفعيلها وترشيد الإنفاق العام وإعادة ترتيب أولويات الصرف وتوسيع منافذ التمويل الخارجي، كما تضمنت عدداً من التوجيهات العامة أبرزها تحقيق متطلبات ولاية وزارة المالية على المال العام وتهيئة البيئة المؤسسية وتعزيزها لاستعادة النمو الاقتصادي.
وأوصى الاجتماع المشترك بضرورة تطبيق نظام الخزانة الموحدة بصورة كلية والإسراع في إجازة قانون الاستثمار، وتضمين الملاحظات التي ذكرت في أسس إعداد موازنة 2021 وقواعدها لعرضها على الاجتماع المشترك للقطاعات الوزارية لإجازتها.
تستمد موازنة 2021 مرجعياتها من سياسات الحكومة المدرجة في الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية واتفاقية السلام الشامل والبرامج الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير وتوصيات المؤتمر الاقتصادي الأول.