حتماً سيرحل الرئيس دونالد ترمب عن المكتب البيضاوي، الذي جلس عليه رؤساء ترك كثيرون منهم بصمات في التاريخ، وسيعود إلى مكاتبه في المبنى الذي يحمل اسمه (برج ترمب) وسط مدينة نيويورك، تاركاً خلفه إرثاً عظيماً من التخبط والفوضى وسوء الإدارة سيلقي عبئاً ثقيلاً على خلفه الرئيس المنتخب جو بايدن وإداراته، لإعادة الهيبة والوقار اللذين افتقدهما البيت الأبيض في السنوات الماضية.
وسيواجه الرئيس الجديد مهمة صعبة للغاية نظراً إلى الكم الهائل من الألغام السياسية التي زرعها سلفه في الشرق الأوسط وحول العالم، فقد زعم ترمب أنه قادر على ابتكار الحلول لكل مشكلة بـأسلوب تجاري، بعيداً عن قيود التاريخ وضوابط الجغرافيا، فالرجل لا يحتمل تفكيره التعمق في أي قضية، إذ يتصور أنه وحده سيتمكن من إيجاد حلول لها ويكون له منفرداً القول الفصل فيها، فقد كان قليل الخبرة والتجربة في القضايا الدولية، وما كان قارئاً للتاريخ ولا مهتماً بالتفاصيل التي تشكل جوهر الحلول في عديد من الأزمات.
خلال أربع سنوات لم يتمكن ترمب من معالجة أي قضية دولية بل أسهم بإمعان في خلق مزيد من بـؤر التوتر في منطقة الشرق الأوسط، وتعمد رفع حرارة الخلافات العربية مع إيران خصوصاً، وعوضاً عن لعب دور المهدئ والوسيط، عمد إلى تعميق الشكوك والمخاوف، ولم يكن ذلك إلا لتحقيق هدف واحد هو ضمان بقاء دولة إسرائيل في موقع التفوق العسكري مهما بلغت المبيعات العسكرية لبعض دول المنطقة.
كان واضحاً خلال السنوات الأربع الماضية، أن سياسة البيت الأبيض غير ثابتة ولا مفهومة، وأربكت العالم في محاولة تجنب الصراع معه والسعي لفهم المؤثرات التي تتحكم في اتخاذه القرار، ويمكن الالتفات إلى العدد غير المألوف من التغييرات التي أحدثها ترمب في أهم موقعين داخل البيت الأبيض، وأقصد منصب مستشار الأمن القومي، فقد تعاقب عليه أربعة طرد منهم ثلاثة، ثم موقع كبير موظفي البيت الأبيض الذي مر عليه ثلاثة، بينما ظل الموقع الثابت الذي لم يتبدل هو موقع زوج ابنته جاريد كوشنر الذي مثل الشخصية الأهم الأكثر تأثيراً علـى مجمل القرارات والأكثر نفوذاً في تحديد أولويات السياسة الخارجية، بعيداً عن نطاق وزير الخارجية وأجهزة الاستخبارات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعامل ترمب مع الموقع الأخطر في العالم بعقلية صاحب المزرعة، الذي يمتلك كامل أسهمها متصوراً أنه يمتلك الحق في تحديد ما يفعله الجميع، ولم يكن يخفي نرجسيته المفرطة مدعياً قدرته على إنجاز الصفقات من دون تحمل أي تبعات، ومن المـؤكد أن معظم قيادات العالم قد تنفست الصعداء بخسارته بعد سنوات من الاضطرار إلى تحمل صفاقته وإهاناته، التي لم يسلم منها أي حاكم حتى من كان يتصور أنه قريب منه أو متوافق مع رؤيته للعالم.
الآن، لا بد من أن الرئيس ترمب يفكر جدياً بما يمكن أن يحدث له في اليوم التالي لتسليم السلطة رسمياً، بل قد يكون السؤال الأهم هو، ما الذي سيفعله خلال الشهرين المقبلين؟ إذ ليس من الواضح أنه قد فكر ملياً بتبعات ما تسبب به من اختلالات سياسية ووظيفية طيلة سنوات حكمه، كما أنه صار يعمل بطريقة غير مسبوقة من حيث إقالة كبار موظفيه في الأيام الأخيرة من حكمه، وما زال يواصل السعي لمزيد من التوتر في مناطق مختلفة، وكانت زيارة مبعوثه الخاص إيليوت أبرامز إلى المملكة العربية السعودية في هذا الإطار، لكنه لم يفلح بالحصول على دعمها لاتخاذ إجراءات جماعية ضد الحكومة الإيرانية.
لم يعد أمام الرئيس ترمب إلا أيام معدودة مهما حاول وبذل، وبعدها سيكون في مواجهة شرسة مع مجلس النواب الأميركي، الذي سيعمد إلى تجديد استدعاء كبار الموظفين الذين منعهم ترمب من الشهادة أمام لجانه المختلفة بخصوص قضايا التهرب الضريبي والعلاقة مع روسيا وغيرها، وليس الغرض من ذلك رغبة الديمقراطيين في الانتقام من الرجل فقط ولكن، وهذا هو المهم، التأكد من عرقلة قدرته على الترشح مرة أخرى في العام 2024، فمؤسساته التجارية تتعرض للتحقيق في تضخيم تقييم ممتلكاتها من أجل الحصول على قروض من البنوك، ثم استغلال السلطة للحصول على صفقات خارجية، والتحرش الجنسي والدعوى المرفوعة من ماري ترمب ابنة أخيه ومن محاميه السابق وقضايا أخرى كثيرة.
وستشهد بدايات فترة سنوات حكم الرئيس المنتخب بايدن مواجهات على جبهات عدة مع قضايا داخلية على رأسها إعادة البطالة وبطء نمو الاقتصاد الذي تأثر بوباء كورونا، وإعادة الانضباط إلى عمل المؤسسات الأميركية، وعودة واشنطن إلى العمل الجماعي مع بقية دول العالم عبر المنظمات الدولية، وتفعيل المعاهدات الدولية التي وقعها الرئيس السابق باراك أوباما، وما يهمنا هنا أن أسلوب إدارة الملفات سيختلف تماماً، مع ضرورة التنبه إلى أن بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس متأثران بأوباما ونظرته إلى العالم، ولن يكون الرئيس الجديد متطرفاً في تعامله مع قضايا العالم كسلفه.
صحيح أن بايدن والحزب الديمقراطي عموماً يوليان قضايا حقوق الإنسان والحريات اهتماماً كبيراً، وذاك تناقض تام مع سياسات ترمب، لكنهما يعرفان أيضاً مدى التغييرات العميقة التي حدثت في العالم وتبدل الأولويات في مناطق كثيرة، ضعفت فيها الحماسة للسياسات التي تصدرت سنوات الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، ولا يعني هذا أن مثل هذه القضايا ستنتفي وتختفي، ولكن المؤكد أن التعامل معها سيختلف على الرغم من أن المواجهات فيها ستظل مستمرة ربما بحدة أقل مما كانت عليه في فترة ما قبل ترمب.
أمام المنطقة العربية سنوات أربع لن تكون هينة لمواجهة ملفات كان الاعتماد على مواجهتها مبنياً على وجود رئيس تصورناه حليفاً أبدياً، وعليه، فمن الحيوي ألا نعيد تجربة الركون فقط على شخصية الرئيس الأميركي، بل على سد الثقوب التي توسعت في جدران العلاقات الداخلية وكذلك العربية البينية، وفي الوقت نفسه التركيز على البناء الداخلي التوافقي بين مكونات الأوطان وإزالة الحواجز التي تمنع المصالحة الوطنية داخل كل مجتمع.
إن القلق الذي ينتاب البعض من عودة رئيس ديمقراطي له مبرراته، ولكنه يجب أن يكون محفزاً لدراسة أسباب هذا الضعف الذي يعتري الجسد العربي أمام المخاطر الداخلية والخارجية، كما أن استمرار الاعتماد على شخصية الرئيس المقيم في "1600 جادة بنسلفانيا" بواشنطن سيجعلنا نعيش داخل الفقاعة نفسها كل أربع سنوات.