في خيمة صغيرة مصنوعة من النسيج البدوي القديم، تقيم "غنيمة" مشغلاً خاصاً لحياكة المنسوجات التراثية الفلسطينية، تعمل فيه وحدها لأكثر من 10 ساعات يومياً، تغزل الهودج والسجاد اليدوي والتحف التراثية، باستخدام قرن غزال اصطادته برفقة والدها في مدينة بئر السبع، وتسلي وقتها بأغان بدوية قديمة.
قبل 70 عاماً وصلت "غنيمة" العرجان (80 سنة) إلى قطاع غزّة مهاجرة من مدينة بئر السبع (أكبر تجمع لبدو فلسطين) بعد سيطرة إسرائيل عليها عام 1948، وبدأت على الفور في إقامة مشروع تعليم صناعة السجاد والبساط البدوي لنساء مدينة خان يونس جنوب القطاع.
تقول "غنيمة"، "شيّدت خيمتي في عمر 10، وبدأت منذ ذلك الوقت في صناعة السجاد من وبر الإبل، وصوف الأغنام، حينها لقيت إقبالاً على هذه المشغولات، وبدأت في الانتشار بسرعة في القطاع، لا أكابر عندما أقول إنني مَن أدخلتها إلى غزة، وكنت الأولى في صنع هذه الأدوات التراثية".
تراث بدوي
باعتزاز تواصل "غنيمة" عملها في صناعة مشغولات تراثية بدوية، على الرغم من الإقبال الضعيف عليها، بعد انتشار الأدوات الحديثة، وتضيف، "إذا قرر البدو ترك التراث، ماذا يبقى للفلسطينيين، حرام أن تندثر هذه القطع التراثية في قطاع غزة، لأنها تعبر عن عمق الارتباط بين الفلسطيني وتراثه القديم".
وبالفعل، ما زالت الطاعنة في السن ترتاد خيمتها الصغيرة كلّ يوم، تقضي فيها ساعات النهار، وتصرّ على مواصلة عملها حتى ينتهي عمرها.
عادة، تصنع "غنيمة" أدوات التراث الفلسطيني بيديها، مركّزة على صناعة عصا الدبكة الشعبية، والزي التراثي الخاص بالبدو، وصواني تقديم الذهب والحنة في الأفراح، والهودج، وبيوت من النسيج، إضافة إلى سجاد من وبر الإبل وصوف الخراف.
تكاد تكون الوحيدة التي تمارس هذه المهنة اليدوية الشاقة في قطاع غزّة، إذ شارفت مهنتها على الاندثار منذ زمن طويل، بسبب صعوبتها وعدم وجود إقبال على منتجات الصوف والبساط البدوي القديم، خصوصاً بعد التقدم التكنولوجي الكبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تمسك بعادات البدو
في غزّة، ينقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات، الأولى، البدو، ولهم خمسة تجمعات، ما زالت محافظة على عاداتها وتقاليدها، وترفض الاندماج مع التقدم الحاصل في القطاع إذ ما زالت تقيمت أفراحها بأدواتها التراثية من بيت الشعر وتقديم الحنّة على صوانٍ مصنوعة من النسيج البدوي. والثانية والثالثة الفلاحون والحضر.
قد يكون هذا السبب في استمرار "غنيمة" في صناعة الأدوات التراثية، لوجود عشرات المحال التجارية التي تعرض منتجاتها لزوار القطاع من الوفود الأجنبية.
بيديها المرتعشتين تمسك أداة "النول" (آلة يدوية)، تغزل خيوط الصوف عليه بطريقة دائرية، لتنسج أول مكونات الهودج، تقول إن "صناعة هودج يستغرق حوالى ثلاثة أسابيع، هذا الوقت طول ومتعب، لكنني أرتاح نفسياً وجسدياً أثناء صناعته، إنه يذكرني بحياة البدو القديمة".
قرن الغزال
تعتمد "غنيمة" على أدوات بدائية في عملها، ويعتبر قرن الغزال أداتها الرئيسة في صناعة أيّ قطعة تراثية، إلى جانب النول الخشبي والإبرة القديمة، وتقول إن "بينها وبين قرن الغزل قصصاً كثيرة، فهو رفيق دربها منذ نعومة أظافرها، وعاش معها سنوات طوالاً من عمرها وهو أهم أدوات صناعة التراث البدوي القديم".
بدأت قصة قرن الغزال، عندما كانت برفقة والديها في صحراء مدينة بئر السبع (سيطرت عليها إسرائيل عام 1948)، حينها، أصرّت عليه لاصطياد غزال ليجلب لها قرنه هدية في عيد ميلادها العاشر، وهو اليوم نفسه الذي غادرت فيه المدينة إلى قطاع غزّة، وما زالت تحتفظ به حتى اليوم، وتعمد عليه في صناعة منتجات تراثهم.
تعتمد "غنيمة" على قرن الغزال في غزل النسيج، وحياكة الصوف، وحتى في ترتيب مشغلها الصغير، وتوضح أن اقتناء قرن الغزال يعدّ تراثاً بدوياً قديماً، ومن يملكه كان يعد من الأثرياء، ومن يفرّط به كأنه تخلى عن عاداتهم التقليدية القديمة.
توصيل للضفة وإسرائيل
عن استخدامه في حياكة المطرزات الفلسطينية، تقول "غنيمة" إنه يعمل على توسيع الفجوات بين الصوف، وهذا يجعله أداة مميزة.
في الحقيقية، على الرغم من أن مهنتها شارفت على الاندثار، إلا أن الكثيرين من بدو غزة ما زالوا يطلبون مشغولاتها، وتتراوح أسعار القطعة بين خمسة دولارات حتى 30 دولاراً أميركياً، لكنها لا تعتمد على عملها كوسيلة لجني الأرباح، إنما للمحافظة أيضاً على تقاليد قديمة.
الشيء الذي يشجعها على الاستمرار في هذه الصناعة، قدرتها على إيصال منتجاتها إلى بدو الضفة الغربية ومدينة بئر السبع في إسرائيل، وتقول، "بعد تواصل بدو مناطق فلسطين معي، طلبوا مني شراء المنتجات وتوريدها لهم، وبالفعل نجحنا من دون عراقيل من إسرائيل".