في بناء أدبي تداخلت فيه بعض الأجناس الأدبية وامتزجت بمرونة شديدة، قررت الكاتبة إيمان بيبرس خبيرة التنمية الاجتماعية، أن تنتهج أسلوب السرد الحكائي لتنقل عبر كتابها "الشغّالات وأنا" الصادر عن دار بدائل للنشر والتوزيع 2020 تجارب عايشتها في فترة زمنية امتدت منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة، عبر حبكة درامية لم تبنها على حقائق مستوحاة، إنما أطلت ـ عبر نسيجها ـ الحقائق نفسها، بلا تحريف ولا مواربة. وعلى الرغم من تبرؤ النص من كل ما هو متخيل واعتماده على الأحداث الحقيقية والمعايشة الصادقة للواقع، لم يخلُ من الإمتاع والتشويق والحبكة المحكمة التي استعاضت بها الكاتبة - بحرفية بالغة - عن الخيال في سد فجوات السرد.
يجمع الكتاب بين دفتيه قصصاً لعدد من الشغّالات اللاتي تنوعت جنسياتهنّ بين مصريات، أثيوبيات ونيجيريات، لتلتئم القصص في وحدة واحدة نواتها الراوية وهي الكاتبة ذاتها التي أضاءت عبر تجربتها الذاتية مع بطلات حكاياتها؛ مناطق مظلمة من واقع الطبقة الفقيرة والمرأة المصرية والأفريقية المهمشة. ورصدت من خلال ما ساقته من أحداث؛ قضايا اجتماعية شديدة الخطورة من بينها الصراع الطبقي، الرأسمالية وما خلّفته من تراجع أخلاقي لصالح الجانب المادي، الاستغلال المادي والجسدي للمرأة، الموروث الثقافي الذي يحتقر إنجاب الأنثى ويمتهن طبيعتها بالختان والزواج المبكر والعنف. فضلاً عن قضايا التديّن الظاهري، وإصرار الطبقة الأفقر على إنجاب العديد من الأطفال مع عدم القدرة على إعالتهم أو منحهم ما يستحقونه من حياة كريمة، ما جعل الموقع الأبرز من الصورة؛ ذئبين كانا ومازالا ينهشان في جسد المجتمع هما الجهل والفقر.
المنهج الساخر
لجأت الكاتبة إلى السخرية في رصد أحداث مؤلمة حد الفجيعة، والبكاء أحياناً، لتعلن انحيازاً صريحاً إلى مدرسة تشيخوف وبرنارد شو وغوغول، وغيرهم من كتّاب الأدب الساخر. وطعّمت نسيجها بحسٍ فكاهي في ما يشبه الكوميديا السوداء فأكسبت - في غير موضع - مادة الحدث؛ قدرة على إثارة الضحك وتحفيز البكاء، جاعلة النكات مريرة والمآسي مضحكة، وزاد من أثرها كونها حوادث حقيقية وقعت بالفعل.
اتخذت الكاتبة قرارها بالتمهيد للقصص التي ساقتها عبر النسيج من خلال سرد جانب من حياتها بدأته بزواجها في التسعينيات وعملها في منظمة دولية وفي إحدى الجمعيات الأهلية، لتفسر عبر هذه البداية ما يليها من زخم وتنوع في القصص وفي الشخوص النسائية اللاتي تعاقب وفودهنّ إلى منزلها لحاجتها إلى من يساعدها في أعمال الطهو والتنظيف، حتى تتمكن من متابعة حياتها المهنية التي لم تكن لتنجح فيها بلا شخص يرفع عن كاهلها أعباء المنزل. إلّا أن عين الخبيرة الاجتماعية المعنية بالشأن العام ما لبثت أن التقطت من حكايات خادماتها بعداً اجتماعياً خطيراً باعتبارهنّ شريحة اجتماعية مهمة شهدت العديد من التحولات الثقافية والاجتماعية. وهذه تفسر بشكل أو آخر الكثير من الأمراض والمشكلات الاجتماعية، التي تجذرت وتفشت في المجتمع وباتت أشد وطأة في الفترة الأخيرة. وقد تنوعت شخوصها من الشغّالات بين متعلمّات وغير متعلمّات، أنيقات وبسيطات وهكذا أبرزت كل قصة أنموذجاً نسائياً مختلفاً في خصائصه النفسية والثقافية، مع أن الشخوص جميعها اجتمعت تحت مظلة التهميش والقهر الاجتماعي والذكورية الضاربة في الثقافة والموروث.
ما بين جناة وضحايا توزعت الأدوار بشكل عفوي وصادق، لكن الكاتبة بنظرتها التحليلية لم تشيطن أياً من تلك الشخوص، أنما عمدت إلى إبراز الجوانب الإنسانية والمضيئة فيها وركنت إلى التفسير النفسي والسلوكي، عبر منح ضمني لم ينتقص من جمالية البناء الذي اختارت في تشييد أسلوب السرد الحكائي، معتمدة منهج السخرية في كثير من الأحيان. هذا المنهج بدا حتى في اختيار عناوين الفصول: هين قرشك وبرضو هتهين نفسك، ليلى بمبادور، السفيرة عزيزة اللذيذة، خلّي اللحمة علينا والزيت عليك، أنت قتلتها والا إيه يا حبيبي، برتا المجنونة- دوخيني يا لمونة... وهي نابعة من رغبتها في إضفاء مزيد من الجاذبية والمتعة والتشويق على النص وربما لقناعة راسخة لديها أن شر البلية ما يُضحك.
بين التعاطف والإدانة
"ليلى بمبادور"، المحطة الأولى التي توقفت عندها الكاتبة، وهي أولى الشغّالات اللاتي استعانت بهنّ بعد زواجها. وقد جاءت موافقة تماماً لقرارها باستخدام مديرة منزل "على الموضة"، أنيقة ومثقفة. ولم تقتصر الحكاية على المفارقات والأحداث الساخرة أثناء عمل الخادمة في المنزل ولا النهاية التي آلت إلى سرقة المصاغ والتحف والأنتيكات، وإنما حرصت بيبرس على عرض صورة من حياة ليلى ومعاناتها في أسرة مفككة، كعملها في طفولتها، وتعرضها للضرب الذي لم تره انتهاكاً لآدميتها. وهذا ما يضيء بعضاً من صور معاناة المرأة في المجتمع ويبرز أسباب ما طاول اختيارات ليلى من تدن أخلاقي وما تعبر عنه من عدم سواء، من دون تبرير تلك الاختيارات وذلك السلوك وإن وضعته في إطار النتائج والمقدمات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استمرت الكاتبة في النهج نفسه عندما تناولت بقية الشخوص، فهي إلى جانب الحكاية، وبالحرص نفسه على استمرار متعة السرد، تناولت ظواهر اجتماعية شائكة اشتبكت مع قضايا ومناطق مأزومة من الواقع. ففي حكاية نادية، تناولت قضية التديّن الشكلي والإيمان القشري وأثر الدراما في ثقافة الفئات المجتمعية الأفقر، التي رفعت من سقف تطلعاتهم وإحباطاتهم وجعلتهم يعتبرون أن كل ثريّ في حقيقته لص سبق له أن سرق حقوقهم. وهذا ما يبرر لهم الخيانة والسرقة، بل هذا ما جعل نادية - التي لا تغادر سجادة الصلاة وقراءة القرآن - تتواطأ مع حارس العقار بهدف السرقة ولا يتم اكتشاف جرائمها إلا من خلال الحارس الجديد بعد ذهاب الأول لتأدية "العمرة"!
أما في حكاية جيهان، فقد تعرضت الكاتبة لقضية البطالة المقنّعة، الثقافة التي لا تزال تُعلي من شأن إنجاب الذكر وتحمّل المرأة مسؤولية نوع الجنين، وانتهاج القسوة كأسلوب عقاب مشروع تستحقه الفتاة، مادامت على قدر من الجمال. وتعرضت كذلك لظواهر الرغبة في الثراء السريع التي أسفرت عنها سياسة الانفتاح والتحولات الاقتصادية في سبعينيات القرن الماضي وترسخت مع مرور الوقت وما نتج منها من تراجع قيمة التعليم والثقافة وإعلاء كل ما من شأنه تحقيق الربح السريع مهما كانت الوسائل.
تسليع النساء
تبدو قصة "السفيرة عزيزة اللذيذة" الأكثر إيلاماً لما جسدته من تعرض المرأة للتسليع والتشييء، وما تجده لا سيما في مدينة الحوامدية (إحدى المدن المصرية المشهورة بتصدير الفتيات للزواج من الأثرياء) من قهر اجتماعي، وسلبها حريتها وإنسانيتها، ثم عقابها على ما أُكرهت عليه بمقاييس الشرف الظالمة التي تنبُذ الضحايا بينما تمنح مزيداً من السطوة لمن أجرموا بحقهنّ.
في قصص أخرى لشغّالات أخريات برز العديد من القضايا منها النزوح من الريف إلى المدينة، والأثار السلبية الخطيرة الناجمة عنها والتي تسببت في أن تبور الأرض والعقول. أما قصص الشغّالات الأجنبيات القادمات من المناطق الفقيرة في أفريقيا فلم تزد على الأمر شيئاً، بل أكدت اتكالية الرجل واعتماده على المرأة واستغلالها بالصور كافة.
على الرغم من اعتناء الكاتبة بالبعد الاجتماعي وتشريحها الظواهر بمبضع الخبير لم تغفل جماليات السرد ولا تقنياته التي تنوعت بين صراع وعقدة وحوار ومونولوغ. كذلك اهتمت باللغة التي خلطت فيها بين الفصحى والعامية والتي تناسب ثقافة الشخوص و"مقتضى الحال". وحوى النص تكنيكاً بصرياً متقناً أكسب هذه الشخوص حياة وجعلها في مرمى البصر حدّ إدراك حركاتها، انفعالاتها ودموعها أيضاً.