لم تجرِ العادة في مجتمع غزة المحافظ أن تمارس النساء أعمالاً حرة تسمح لهن باستقلالية مادية، وفرض أنفسهن في "عالم المهن الذكوري"، إلا أن نائلة أبو جبة تغلبت على العادات والتقاليد المتوارثة من خلال قيادة سيارة أجرة تنقل فيها السيدات فقط، من أجل المحافظة على خصوصيتهن وحمايتهن من الابتزاز أو التحرش.
أن تسوق نائلة سيارة تاكسي في شوارع غزة العمومية، هذا يعني أن ثمة اختراقاً واضحاً لعادات وتقاليد المجتمع، الذي غالباً ما يمنع فيه أولياء الأمور النساء من ممارسة أعمال حرة أمام الرجال أو حرف شاقة.
هذه الفكرة لقيت في بدايتها معارضة شديدة في أوساط غزة، وتعرضت نائلة أثناء قيادتها سيارة الأجرة لانتقادات حادة، وقالت "تعرضت لكوكبة من الهجوم، فيما الغريب أنني أنقل سيدات فقط، وأرفض حتى نقل أي أسرة برفقة زوجها أو معها شاب، لأتجنب الانتقادات، وعلى الرغم من ذلك وصفت بالجنون".
انتقادات ذكورية
لم تكترث نائلة كثيراً لانتقادات المجتمع الذي تصفه بـ"الذكوري"، وأصرت على مواصلة طريقها كأول سائقة لسيارة أجرة في قطاع غزة، توضح أن ركوب السيدات في السيارات العمومية يجعلهن أكثر عرضة للتحرش والابتزاز، وفكرة أن تكون سائقة سيارة أجرة خاصة بالسيدات تأتي لحماية النساء من الظواهر السلبية تجاههن.
في الواقع، تشكل النساء نصف سكان القطاع (مليوني نسمة)، يعشن واقعاً صعباً نظراً للظروف الحياتية في غزة، إضافة لعادات المجتمع الصعبة المحافظة، وعلى الرغم من هذا، هناك 9 في المئة من الأسر ترأسها نساء، وفقاً لبيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني (مؤسسة حكومية).
وباقي النساء في القطاع تحكمهن عادات وتقاليد المجتمع أو النظرة السلطوية للذكور، بحسب حديث مديرة مركز شؤون المرأة آمال صيام، التي أشارت إلى أن أغلب الرجال أو أرباب الأسر يضعون شروطاً على حرية النساء، وتعقيدات أمام من ترغب في العمل، وفي العادة السيدة التي لا تحتكم لقراراتهم تتعرض للتعنيف (الجسدي أو اللفظي أو المعنوي).
وتشير صيام إلى أن حرية المرأة في غزة مقيدة بقرار من ولي أمرها أو زوجها، الذي عادة يتجنب ما سيقوله الناس بحق أسرته، إذا سمح للفتاة بممارسة جزء من حريتها سواء كان في العمل أو الخروج للتنزه...
العمل بعيداً عن أعين الناس
الدارج في غزة، إذا سمح الرجل للمرأة بالعمل، فإنه يشترط عليها أن تمارس أعمالاً بعيدة عن أنظار عامة الناس أو لا اختلاط فيها، كعملها مدرسة للبنات، أو طبيبة مختصة، أو مهندسة في مكتب، وعادة لا يُسمح للسيدات بالعمل في أماكن مفتوحة أو فيها مخالطة للرجال.
وفي هذا الشأن، تقول رئيسة جهاز الإحصاء الفلسطيني علا عوض، إن 8 في المئة من نساء غزة عاملات، معظمهن في أعمال مكتبية أو وظائف من دون عقود عمل، ولا توجد إحصائية دقيقة عن العاملات في المجال الحر. واقعياً هذه النسبة ضعيفة جداً عند مقارنتها مع إجمالي عدد النساء في القطاع، وحاجتهن لهامش من الحرية لتوفير مصدر دخل لهن، خصوصاً أن سكان غزة أغلبهم من الطبقة الفقيرة والمتوسطة.
خصوصية نسائية
حاولت نائلة كسر هذه العادة، وأن لا تحتكم لنظرة الناس السلبية المقيدة لحرية المرأة والتحكم في عملها، وتمكنت من قيادة سيارة أجرة في شوارع القطاع العمومية. وتقول "مُجبرة مارست هذه المهنة، فلا يوجد في القطاع أي فرص لوظائف عمومية أو أعمال مكتبية، وبعد قيادتي السيارة أحببت الفكرة، وواصلت ذلك عن قناعة".
لقيت قيادة نائلة إعجاب كثير من النساء، لما توفره من خصوصية لهن وتحميهن من التعرض لأي شكل من التمييز على أساس الجنس أثناء التنقل في السيارات العمومية، أو التعرض للتحرش.
تقر نائلة بأن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها سكان القطاع أثرت بشكل كبير على تحصيلها اليومي، إذ بالكاد تستطيع توفير ثمن محروقات السيارة من السولار إلى جانب القليل لإعالة أسرتها لمدة يوم فقط.
فجوة أجور وغياب قوانين
وتؤكد رئيسة جهاز الإحصاء الفلسطيني أن هناك فجوة واضحة في معدل الأجر اليومي بين النساء والرجال، إذ بلغ معدل الأجر اليومي للنساء 20 دولاراً، مقابل 30 دولاراً للرجال، مشيرة إلى أن ربع العاملات يعملن من دون عقود عمل تحفظ حقوقهن، ونحو 30 في المئة من العاملات يحصلن على إجازة أمومة.
وفيما تحاول سائقة سيارة الأجرة مواصلة عملها، يعرقلها غياب قوانين فلسطينية يفترض أن تحميها، وتقول الباحثة في المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية عائدة الحجار، إن القوانين التي تتناول قضية حق المرأة في العمل لا تهيئ الظروف المناسبة لدخولها هذا المجال، وأغلبها سُن عام 1998، ولم يجرِ تفعيل اتفاقية التمييز ضد المرأة (سيداو) في غزة، وهناك مشكلات تتعلق بمدى الالتزام بتنفيذ القوانين التي تؤكد على المساواة وعدم التمييز، وضرورة منح إجازة أمومة، كما تحتاج المرأة العاملة أيضاً إلى سن قانون يحميها بشكل خاص من التحرش الجنسي، والتمييز على أساس الجنس، لأن هذه الظواهر أدت إلى استغلال بعض أرباب العمل للنساء.