عندما أعلن فوز دونالد ترمب منذ سنوات أربع، كانت دلالات هذا الفوز عديدة، ليس فقط لأنها تعمق الاستقطاب الأميركي بين أقصى اليمين واليسار الذي تمخض عن وصول الرجل للحكم، ولكن أيضاً لأن وصول ترمب، مثل سابقه أوباما، كان محاولة من جانب السياسة الأميركية بمكوناتها المتناقضة لإيقاف أو محاولة تعطيل تحولات داخلية وخارجية أميركية.
ولشرح ما يبدو معقداً في ما سبق، أبدأ مما نعرفه جميعاً من وضع ملتبس بل وخطير، من رفض ترمب نتيجة الانتخابات، ومواصلة التحدي وادعاء أن الانتخابات قد زُورت، وهو ادعاء لا يقوى على طرحه أحد في الحكم في أشد الجمهوريات المستبدة، في جميع الأحوال الكل يتابع وتميل التوقعات الرشيدة إلى أنه رغم ما يحدث ستتغلب المؤسسية الأميركية، ويجبر ترمب على الخروج من البيت الأبيض.
وهناك تقارير ودراسات إعلامية وسياسية مفصلة حول السيناريوهات المحتملة بهذا الصدد، وكيف سينتهي الأمر بمغادرة ترمب للبيت الأبيض، ولكن في الحقيقة الأمور قد سارت في طريق يتجاوز ما حدث في انتخابات بوش الابن ضد آل غور، وحتى لو تطورت الأمور بشكل مختلف خلال الأيام القليلة المقبلة لصالح تأكيد الديمقراطية الأميركية وحسم الأمور بالشكل المنطقي، فإنه من الضروري النظر إلى كل المشهد في إطار سياق شامل.
استقطاب الداخل الأميركي
ربما تكون أول الملاحظات هي ضرورة النظر إلى الاستقطاب الداخلي الأميركي بوصفه تعبيراً عن تفسخ المجتمع، فضلاً عن أنه جزء من صراع الأفكار الكبرى في التاريخ بين مجموعتين من منظومات القيم السياسية والاجتماعية، التي تتصارع في عقول البشر في العالم المعاصر، ففي جانب الفكر المحافظ اليميني الذي يشمل خليطاً معقداً مشوهاً من أفكار الفردية والحريات الشخصية المقيدة في جانب والمطلقة في آخر، فهؤلاء الذين يؤيدون ترمب يؤمنون بحرية حمل السلاح، وأن هذا من الحقوق الأساسية، ويؤمنون كذلك بأن القيود المفروضة لمواجهة كوفيد19، هي اعتداء على حرياتهم ومصالحهم الشخصية، وأغلبهم يؤمن بالعنصرية وحق شعب ما، أو فئة ما، في أن تكون أعلى وأكثر تميزاً من الأخرى، وينبني موقفهم من الإجهاض وحقوق المثليين التي تتناقض مع رؤيتهم الفردية على أسس دينية، وكلهم تربطهم أفكار غامضة حول حماية مصالحهم ضد الانفتاح على العالم، وأن العولمة أضرت بتفوقهم الاقتصادي، ونجحوا في الجولة السابقة بانتخابات 2016 في جذب كثير من العمال من البيض والأقليات بطرح فكرة أن العولمة والحريات التجارية، التي كانت بلادهم المؤسس والداعم الأكبر لها هي المسؤولة عن التراجع الاقتصادي الأميركي، وجذب هذا في حد ذاته أعداداً لا يستهان بها من العمال الأميركيين من كافة الخلفيات الإثنية وكتب نجاحاً كبيراً لهذا التيار، بخاصة أن هؤلاء العمال هم الكتلة الرئيسة المؤيدة لليسار والليبراليين في أغلب بلاد العالم وليس الولايات المتحدة وحدها، وقد واصل بعض هؤلاء وليس كلهم التصويت لصالح ترمب.
في مواجهة هذه الكتلة التصويتية كتلة أخرى أكبر عدداً، تؤمن بمنظومة القيم الليبرالية أو تجد نفسها في هذا المعسكر، وهي قيم مال بعض مؤيديها في العالم وليس فقط الولايات المتحدة نحو مزيد من الانفتاح، شمل حق الإجهاض وحتى حقوق المثليين، وبالطبع الأهم أفكار الضمان الاجتماعي والصحي ورعاية الفقراء، وهي مفاهيم مرتبطة لديهم بقيم حقوق الإنسان بمعناها الشامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي فضلاً عن الفكري، وأن الانفتاح على العالم خيار لا يمكن تجنبه، يؤيد هذا كتلة رخوة ضخمة، ولأن منظومة قيم هذا التيار تعادي بقوة العنصرية والتعالي تجتذب تلقائياً الأقليات الإثنية والدينية، التي يهمشها ويقمعها التيار الآخر، ومن ثم يجد بعض المعارضين لأسباب دينية مسائل كالإجهاض وحقوق المثليين أنفسهم في قلب تأييد هذه الكتلة لما تسببه الكتلة الأخرى من خطر وتهديد لوجودهم. بمعنى آخر أن مكونات كل كتلة هشة لا تتسم بالتماسك المطلق، ولكنها لا تملك إلا تغليب اعتبار على آخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تراجع الولايات المتحدة عن صدارة المشهد في العالم
على صعيد آخر، فإن الرؤساء الأميركيين منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001 لكل منهم تصور متناقض مع من قبله في محاولة إيقاف التراجع الأميركي عن صدارة النظام الدولي، وكانت مؤسسات صنع القرار الأميركي أول من رصد معالم التراجع عن صدارة المشهد الدولي، وفي الحقيقة إن هذا الأمر لا يعود فقط إلى صعود الصين وعودة نفوذ متصاعد لروسيا، وإنما الأكثر من ذلك أن القوى المتوسطة، وأحياناً الصغيرة، قد طورت من منظومة القوة الخشنة والناعمة لديها لتصبح أكثر قدرة على تحدي القوى العظمى، التي أصبحت تلجأ إليها للتأثير غير المباشر أو حتى لمجرد تقليل نفوذ القوى الكبرى الأخرى.
وهنا كان أداء ترمب الديماغوجي والفظ بمثابة اهتزاز كبير لهيبة واحترام الدولة الكبرى، التي خاضت معارك سياسية ودبلوماسية وأحدثت ضجة شديدة من دون أي تأثير حقيقي، والشاهد على ذلك كل من حالتي كوريا الشمالية وإيران، فضلاً عن الانسحاب المتتالي من كل من العراق وأفغانستان، في رسالة واضحة لهزيمة دورها وتدخلها السابق في البلدين، وهو انسحاب في الأولى لصالح إيران التي تصعد ضجة ضدها، وفي الأخيرة لصالح طالبان التي أنفقت قرابة تريليوني دولار من أجل هزيمتها.
التشكيك في التقاليد الديمقراطية
يكتمل هذا السياق التاريخي ببعد آخر لا يقل أهمية، وهو الإساءة الجوهرية والشرخ العميق الذي أحدثه ترمب في فكرة الديمقراطية، فبمجرد تحدي نتيجة الانتخابات بصرف النظر عن أنه في الأرجح سيضطر إلى التراجع والخروج من البيت الأبيض، فإنه قد ضرب تقاليد الديمقراطية الأميركية بشكل مؤسف، وإذا صح أنه يرتب لضمانات لمنحه حصانة من المحاسبة والمحاكمة، فإن الأمر يصبح أكثر سوءاً ومهيناً لما تمثله بلاده من قدوة أو ادعاء ذلك، وحتى إذا قيل بعد ذلك إن تقاليد ومؤسسات بلاده ستزيحه في النهاية يظل الثوب قد دنس وتردى النموذج بشكل غير مسبوق.
وعندما تحدى ترمب علماء بلاده في قضية التغير المناخي، ورفض نتيجة عمل لجنة العلماء الحكوميين التي كلفها دراسة الأمر، وواصل تحديه بالخروج من الاتفاقية الدولية بهذا الصدد، وأكمل هذا بأدائه الفاشل في التعامل مع كوفيد 19، وتحدى الأطباء حتى من كبار معاونيه، فقد أطلق النار على قيمة أخرى كبرى مهمة وهي قيمة العلم، التي لعبت بلاده تاريخياً دوراً كبيراً في إرسائها والاستفادة منها، بل كان لها الريادة في تطوير كثير من فروعه، وكان تقدمها العلمي أحد أركان صعودها كقوة عالمية غير مسبوقة، ليضيف بعداً آخر في التراجع حتى لو كان ظاهرة عارضة، فإنه يمس مبادئ جوهرية تستحق وقفة خاصة.
كل هذا يصب في مشهد أكبر، هو الأنماط المختلفة لسقوط أو على الأقل تراجع الإمبراطوريات، وتذكيرنا بأن دروس التاريخ واحدة، تتراجع الإمبراطوريات معظم الوقت لأنها تفقد تماسكها من الداخل، وتضعف همتها، ونادراً ما تنجح جهود وقف التراجع، دليل ذلك أن كثيرين توهموا أو افترضوا أن أوباما هو محاولة لتجديد شباب الإمبراطورية، وإعادة طرحها في ثوب تقدمي جديد، ولكن هذا لم يحدث، نجح في كثير من الإصلاحات، ولكنه لم يقو على تنفيذ كثير من تصوراته الداخلية والخارجية، واكتفى أحياناً بالمشاهدة أو التدخلات السلبية وارتكب أخطاء جسيمة خصوصاً في السياسة الخارجية، وجاء خلفه تيار النقيض الفكري ممثلاً في ترمب ليمزق أي صورة مثالية للنموذج الأميركي بصرف النظر عن تقييم كل عناصر سياساته بإيجابياتها وسلبياتها، ولكي يعود التوازن يتم إحلاله الآن بنموذج يجسد كل تقاليد المؤسسية الأميركية، ولكن لكي يكتمل تعبير المشهد الرمزي يتم هذا الإحلال بشخصية متوازنة ومؤسساتية ولكنها شائخة ممثلة في بايدن، وعلى رغم التفاؤل بقيادته فإن هناك صعوبة في تصور تمكنه من إعادة التماسك للإمبراطورية المضطربة، ربما تقليل سرعة التراجع، ولكن من دون عودة العجلات لتسير إلى الأمام بقوة دفع حقيقية، وللحديث بقية بحسب شكل انتهاء الفترة الانتقالية الصعبة.