بينما انصرفت بلدان الاتحاد الأوروبي إلى مداواة جراحها الناجمة عن تفاقم كارثة "كوفيد-19"، والاستعداد لملاقاة الرئيس الأمريكي الجديد، في توقيت مواكب لنشوة العاصمة الروسية بما حققته من إنجازات على صعيد احتواء مشكلة قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا، عادت تركيا لمحاولات التسلل إلى الفناء الخلفي لروسيا، سعياً وراء تجديد حلمها الامبراطوري التوسعي في آسيا الوسطى، وبلدان الفضاء السوفياتي السابق.
وعلى الرغم من إصرار الكرملين على الحيلولة دون مشاركة تركية عسكرية مباشرة في أية مهمات لحفظ السلام داخل قره باغ، فقد عمدت تركيا إلى زرع قواتها داخل هذه الجمهورية غير المعترف بها من خلال اتفاقها مع روسيا حول إنشاء "مركز مراقبة مشترك"، في الوقت الذي كشفت فيه العاصمة الأذربيجانية عن بدء عسكريين أتراك لمهمتهم في قره باغ "كخبراء متفجرات".
وتقول المصادر التركية العسكرية إن قواتها التي تشارك في مهمات حفظ السلام في قره باغ، من القوات الخاصة المدعوة إلى دعم القرار التركي السياسي بتقديم أكبر أشكال العون إلى أذربيجان، لإنجاز مهمة تحرير أراضيها المحتلة منذ ما يقارب 30 عاماً.
ومع إصرار الكرملين على أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه الرئيس فلاديمير بوتين مع الرئيس الأذري إلهام علييف ورئيس الحكومة الأرمنية نيكول باشينيان، لا ينص على أي دور تركي في هذا الشأن، فإن تركيا نجحت في "التسلل" إلى ثنايا الموقف من خلال اتفاقها مع أذربيجان حول مشاركتها في إنشاء مركز مراقبة مشترك لمتابعة تطورات وقف إطلاق النار من داخل الأراضي الأذربيجانية المتاخمة لحدود قره باغ، وهو ما أكده وأعلنه الرئيس إلهام علييف. وها هو الرئيس بوتين يعترف ثانية بأن "أنقرة لم تنكر يوماً أنها تؤيد أذربيجان"، فيما عزا ذلك إلى "النتائج الجيوسياسية لانهيار الاتحاد السوفياتي السابق"، على حد تعبيره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف بوتين أن أذربيجان دولة مستقلة ذات سيادة ومن حقها أن تختار حلفاءها كما تشاء. ومضى بوتين إلى ما هو أبعد حين قال إن أذربيجان من وجهة نظر القانون الدولي، قامت بتحرير أراضيها التي يعترف بها المجتمع الدولي بوصفها "أراض أذربيجانية"، ومن هذا المنظور أيضاً فإنها تملك الحق في أن تختار الشريك والحليف الذي يساعدها في تحقيق هذه المهمة.
لم يكتف بوتين بذلك، ليضيف "أن تركيا أيضاً تظل عضواً بمجموعة "مينسك" التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي المشكّلة من 11 عضواً للإسهام في التوصل إلى تسوية أزمة قره باغ، ومن ثم فمن الصعوبة اتهام تركيا بأنها انتهكت القانون الدولي"، بل أكد احتمال الاستفادة من الواقع الجديد مثلما سبق وحدث في إدلب عند التعاون بين القوات الروسية والتركية.
الكر والفر والتستر على الطموح
يسهّل هذا النوع من التصريحات مهمة تركيا في تمرير كثير من مخططاتها، والتستر على طموحاتها الإمبراطورية التي كشف الرئيس رجب طيب أردوغان عنها صراحة حين تحدث عن "ضرورة توطيد علاقات بلاده واستعادة مواقعها السابقة في الفضاء التركماني في آسيا الوسطى مع البلدان التي طالما ارتبطت مع تركيا بعلاقات مشتركة تستند إلى التاريخ والجغرافيا ووحدة اللغة والعقيدة". ومن هنا انطلق أردوغان في رحلته إلى استعادة أواصر الماضي من قرار البرلمان التركي الذي يمنحه الحق بناء على طلبه، في إرسال القوات التركية الخاصة إلى أذربيجان، متجاوزاً ما سبق وأعرب عنه الرئيس بوتين من تحفظات حول عدم جواز استفزاز الجانب التركي لأرمينيا بإرسال قواتها نحو تلك المنطقة، ويعني ذلك ضمناً أن تركيا تسير صوب تنفيذ مخططاتها الرامية إلى التسلل نحو بلدان الفضاء السوفياتي السابق من دون أن تلتفت إلى ما تعرب عنه موسكو من مخاوف أو انتقادات.
ويتناول موقع "بلاتون آسيا" الإلكتروني في هذا السياق، تأكيداً بأن "تركيا جاءت إلى المنطقة لتبقى"، بما يعني أن مشاركتها في عملية حفظ السلام في قره باغ ليست سوى البداية التي ستعقبها خطوات أخرى قد تستمد خيوطها مما يحتدم من سخط وغضب في الداخلين الأرمني والأذربيجاني على حد سواء، فبينما تتواصل التظاهرات في أرمينيا احتجاجاً على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع أذربيجان تحت رعاية روسية، ومطالب باستقالة رئيس الحكومة نيكول باشينيان الذي تتهمه المعارضة الأرمنية بالخيانة، تعلن أوساط المعارضة الأذربيجانية سخطها وغضبها تجاه قبول الرئيس علييف التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار قبل الانتهاء من مهمة تحرير كامل التراب الأذربيجاني، بما في ذلك استعادة "كل أراضي مقاطعة قره باغ المعترف دولياً بتبعيتها لأذربيجان".
الصدام آت لا ريب فيه
ويؤكد وزير الدفاع السابق لجمهورية الدنيبر في جنوب شرق أوكرانيا غير المعترف بها، إيغور ستريلكوف، ما قاله في حديثه إلى "بلاتون آسيا" من أن الصدام بين روسيا الاتحادية وتركيا في منطقة ما وراء القوقاز "آت ولا ريب فيه"، على خلفية التوتر الذي سيستمر طويلاً حول قره باغ. واستشهد ستريلكوف بما قاله بوتين حول أن الوضعية النهائية لقرة باغ لم تتحدد بعد، وأن الحديث الآن يدور فقط حول الحفاظ على الوضع القائم.
وأضاف بوتين أن الأمر سيظل رهن ما قد تتوصل إليه الأطراف المعنية في المستقبل، وذلك يعني أن موسكو تتوقع تحولات مرتقبة في هذه المنطقة بما يعني بالتبعية احتمالات تطور المنافسة والمواجهة بين روسيا وتركيا، ويمكن أن يزيد من حدتها انخراط أطراف أخرى في هذا الصراع غير المعلن من جانب إيران التي يوجد لديها ما يمكن أن تشهره في وجه تركيا، إلى جانب ما تعرب عنه من مخاوف إزاء احتمالات انضمام أذربيجان إلى "الناتو"، على ضوء زحف القوات التركية شرقاً داخل أراضي الفضاء السوفياتي السابق، وهو ما وصفه بـ "استكانة روسيا تجاه مثل هذا الأمر".
من هذا المنظور، تأتي تحذيرات الفريق متقاعد ونائب قائد مجموعة القوات الروسية في القوقاز يوري نيتكاتشيف، التي أعلنها في حديثه إلى صحيفة "نيزافيسيمايا" الروسية المستقلة، منبهاً من مغبة وجود القوات التركية الخاصة التي دفعت بها تركيا إلى منطقة النزاع في قره باغ.
وقال، "حيثما يكون هناك مشاة يمكن لقوات النخبة الخاصة أن تتدخل. إنني أعرف من تجربة سوخومي، (كان على مقربة من الصراعات الداخلية في جورجيا حين قام بمهمات وزير دفاع جمهورية أدجاريا ذات الحكم الذاتي خلال فترة إعلانها الانفصال من جانب واحد عن جورجيا)، الدور الذي يمكن أن تلعبه القوات الخاصة في زعزعة استقرار الوضع". وأشار نيتكاتشيف إلى ما يتلقاه الرئيس الأذربيجاني في باكو من دعم غير معلن من جانب القوات التركية الخاصة، التي ثمة من يقول إنها اضطلعت بالعبء الأكبر لدى تنفيذ مهمة القوات الأذربيجانية في استعادة أجزاء كبيرة من مقاطعة قره باغ.
أما عن حقيقة أهداف تركيا، فقال المسؤول العسكري الروسي إنها تتلخص في "إزاحة روسيا ليس فقط من قره باغ، بل من منطقة القوقاز بأسرها". وأضاف، "يمكن تحقيق ذلك بمشاركة القوات الخاصة التركية من خلال التخريب وتحريض السكان المحليين ضد قوات حفظ السلام الروسية"، فيما أعاد إلى الأذهان تلك المظاهرات التي قال إنها خرجت في أذربيجان ضد روسيا قبل اندلاع الحرب في قره باغ، والتي رفع المشاركون فيها الأعلام التركية جنباً إلى جنب مع الأعلام الأذربيجانية".
وعلى الرغم من أن الرئيس بوتين سبق وقال في حواره مع المشاركين في الدورة الأخيرة لمنتدى "فالداي"، إنه غير معنيّ بما يقال حول طموحات أردوغان في القرم، نظراً إلى أن مصالح روسيا مؤمّنة بشكل جيد، ولا مكان لأية مخاوف الآن، فان هناك من يشير إلى خطورة انتقاد أردوغان المتكرر لضم روسيا "القرم"، وتلك إحدى المشكلات المؤجلة ضمن قائمة الأخطار المحتملة التي قد تكون سبباً في اشتعال مزيد من الخلافات في المنطقة، في وقت يتوقع فيه المراقبون تحريك كثير من ملفاتها خلال الفترة القريبة المقبلة، بعد تولي الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن مهمات منصبه مطلع العام المقبل.