في الحلقة الثالثة، عرضنا السبل التي طور فيها رينيه ديكارت المذهب الشكي وفق منهج علمي جديد مستقل عن شكوكية بروتاغوراس وبيرون والغزالي وغيرهم. وأن اكتشاف القوانين الطبيعية وتجريد الأفكار الرياضية من الواقع الموضوعي، والقواعد العقلية التي وضعها، كلها تؤدي إلى اليقين العلمي الذي لا يصل إليه الشك قط.
هيوم (1711-1776)
إن ميزة ديفيد هيوم في تاريخ الشكية، كونه أولاً، تجريبي المبدأ، إذ يقف على الطرف المعاكس إلى الغزالي وديكارت وسائر العقلانيين. ثانياً، طور الفلسفة الحسًية أو التجريبية إلى فلسفة شكية كاملة. ثالثاً، نقد العقل في الماورائيات بقوة أكثر من سابقيه التجريبيين أمثال "فرنسيس بيكون، وجون لوك، وجورج بركلي". رابعاً، سلك طريق الإيمان بالدين من خلال "اعتناق مذهب الشك" ليكون مسيحياً كاملاً ومؤمناً.
ويعبر هيوم عن فكره الشكي بهذا القول، "في كل براهين العلوم تكون الأحكام أكيدة وناجعة، ولكن عندما نطبقها عملياً تكون عرضة للخطأ وللشك في ملكتنا العقلية، إذ تكون ميالة للانحراف عنها والانحدار نحو الغلط". (بحث طبيعة الإنسان، ج1، طبعة إنجليزية). وكذلك يقول: إن "الاستنتاجات لا تستطيع أن تكون أكثر قبولاً لدى الشكية مما تصنعه الاكتشافات في ضعف وضيق حدود قدرة العقل" (بحث بشأن ذهن الإنسان، طبعة إنجليزية).
ويتطرق هيوم في شكوكه، إذ ينقد نظرية العلية التي توجب التضمن المنطقي في المعرفة الإنسانية. فبحسب تصوره، أن العلية في الطبيعة تكون على غير ذلك، حيث إننا لا نستطيع أن نعلم بالتضمن أن الهيدروجين والأكسجين يكوّنان الماء، لأن كثيراً من الوقائع التي نشاهدها لا تتغير بالتجربة، وعليه، كلما نصادف العلة فإنه بالضرورة ينشأ لدينا نزوع شديد في ترقب ما نسميه "المعلول" الذي لا يعدو عن كونه مجرداً من حدث يأتي دائماً بعد أعقاب الحدث الأول لا غير. وبما أن هذا هو أقصى ما يمكن أن تتوصل إليه معارفنا، إذاً فإن العلم ليس أكثر من كونه ملفاً للأحداث المنظمة، حيث ليست هناك قوانين علية، ولا نظريات تفسيرية ولا حتى نظام للطبيعة.
بعبارة أخرى، يرى هيوم أنه ليس باستطاعتنا أن نحصل على معرفة التركيب العقلي بالنسبة إلى الحقيقة الكاملة، التي تكون وراء الواقع الموضوعي، وذلك بواسطة الحدس العقلي للمبادئ الرياضية، إضافة إلى أننا لا نستطيع أيضاً أن نتقدم من الوقائع بواسطة الاستقراء المنطقي، إذا كان هذا الاستقرار يعني التضمن المنطقي. وهنا، يدحض هيوم ركيزة ديكارت العقلية ويقدم بدلاً عنها "فرضيات"، إذ حسبما يعتقد، أنه بمقدورنا أن نقدم بعضاً من الفرضيات المعينة التي تفسر عدة من المجموعات الوقائعية، كما في الفرضية الخاصة بالكواكب السيارة، وفرضية الدورة الدموية، فضلاً عن النظريات التفسيرية في مختلف العلوم، وهكذا.
ولكن مهما كانت هذه الفروض صحيحة، بحيث تصبح "احتمالية" تكتسب طابع الصحة، فإنها ليست شاملة مانعة ونهائية، لأن شكوكية هيوم تجعلها ذات عرضة لإعادة النظر فيها، إذ كلما كانت هذه الفروض تعمل وفق تنسيق يعقل الوقائع، كانت متماسكة مع بعضها البعض، كما في المجالات الكيميائية والفيزيائية والإحيائية والتطورية، وبذلك تثبت أكثر صحة الاستدلالات المستخلصة منها، عندما تقام التجارب والملاحظات في ذلك، ولهذا فإنها لا بد أن تبقى دائماً عرضة لإعادة الفحص الدقيق، على الرغم من أننا ننجح فيها بالانتقال من وراء نطاق الوقائع المجردة إلى الواقع الموضوعي، الذي هو نظام الطبيعة ذاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما موقف هيوم تجاه الدين، فإنه لم يكن شاكاً فيه، وإنما بحكم فلسفته التجريبية رفض التسليم بالخوارق والمعجزات، فوفق رأيه، هي من أخطاء الناس، أما إذا كانت هناك فعلاً بعض الخوارق، فإنها تكون بسبب علة طبيعية مسؤولة عنها، والتي للآن نحن لم نعرفها بعد، ولا يمكننا أن نعرفها، لأن قدرة الإنسان عاجزة عن تحصيل المعرفة الكاملة للعالم الخارجي والماورائيات والنفس البشرية نفسها. ومع ذلك، فإنه أبقى الباب مفتوحاً عندما جعل الأفكار والافتراضات والملاحظات ذات أخطاء يمكن أن نعيد النظر فيها من جديد.
تقييم عام
قبل أن نطرح تقييمنا، يجب الإشارة إلى أن هناك العديد من الفلاسفة الشكيين الذين لهم دورهم في هذا المذهب أيضاً، من جورجياس المعاصر إلى بروتاغوراس، إلى إراسم من المدرسيين اللاهوتيين، إلى مؤسس الفلسفة الوجودية كيركيجارد ومؤسس الذرائعية وليم جيمس وغيرهما، بيد أننا عرضنا أبرز أقطاب المنهجية الشكية.
كيفما كان الأمر، فإن ما قام به بروتاغوراس من شك تجاه التحصيل المعرفي للإنسان، فهو على الجملة قد نقل مشكلة المعرفة من محورها الخارجي للوجود إلى محور الإنسان نفسه. ومن خلال هذه النقلة أنشأ مساراً جديداً للتفكير الفلسفي يبحث في الإنسان فقط، كونه مقياس كل شيء في هذا الوجود بأسره، صحيح أن سقراط وأفلاطون قد نقدا موقف بروتاغوراس لا سيما بما يتعلق بالقانون والأخلاق والحس الجزئي للفرد، إذ إن بروتاغوراس في مبدئه الشكي نسف روابط وعلاقات كثيرة تخص النظام القانوني والبناء الاجتماعي والمبدأ الأخلاقي، إلا أن هذا لا يمنع من القول، إنه كان أول من وضع الحجر الأساس للنظرية الفردية التي سار على حذوها مجموعة كبيرة من الفلاسفة، وما كيركيجارد ووليم جيمس وشيلير إلا نماذج منظورة إلى تلك النظرية التي اهتمت باستقلال الشخصية الفردية.
عموماً، فإن مذهب الشك لم يكن له ذلك النهج العلمي أو النقدي إلا على يد الغزالي، الذي سلط أشعته الشكوكية أولاً على التقاليد الموروثة، خصوصاً الدينية، فأحسن الصواب في التشكيك فيها لكي ينقيها من الشوائب والأغلاط التي تضل ولا تهدي إلى اليقين، بيد أن شكه تجاه الحس والعقل لم يكن على مستوى ذلك الصواب، فإذا كانت هناك بعض الأخطاء التي تخدعنا بها حواسنا، فإن الحس يبقى جزءاً معرفياً يزود العقل بما يشعر به. كما أن العقل يتعرض لبعض الأخطاء عندما يبحث في المسائل الصعبة والمعقدة، لذا لا يمكن الاستناد إليه كلياً، ولكن لا يجوز أن نشك في أولياته، التي هي واضحة مثل أشعة الشمس الساطعة في السماء الزرقاء.
صفوة القول في شكوكية الغزالي بالمحسوسات والعقليات، جاء على نمط السوفسطائيين واعترف هو بنفسه، ولكنه لم يصححه بل واظب بالاستمرار عليه. فإذا كانت العشرة أكبر من الثلاثة، فلماذا نرفض التسليم بصحة الأوليات العقلية؟ فهذه شكوك فاقت حدودها.
ثمة أمر آخر، أن عودة الغزالي إلى العقل ومنح الثقة بالمعطيات الضرورية، لم يكن وفق تنظيم فكري وصله عبر ترتيب معرفي، بل نور قذفه الله في صدره، أي أن الغزالي هنا، يبني عقلاً صوفياً فوق العقل الفلسفي، فكيف تسنى له أن يدرك هذا النور الإلهي الذي أعاده إلى اليقين لولا قوته العقلية. بمعنى ثان، كيف استيقن الغزالي اليقين لولا أن عقله قد أدرك ذلك النور أولاً.
وعلى الرغم من شكوكية الغزالي التي كانت بسبب أزمة نفسية تتعلق بالدين والمذاهب الإسلامية، وليس بالفلسفة وأفكارها، فإنه يبقى له الدور المتميز بإرساء منهج نقدي جديد باتخاذ الشك طريقاً علمياً لليقين.
أما عن شكوكية ديكارت، فمهما كانت مستقلة النهج والتفكير عن الغزالي وبروتاغوراس وبيرون، فهي لا تخلو من مبادئ قد سبقه بها الغزالي. خصوصاً في اتخاذ مبدأ الشك المنهجي طريقاً علمياً لليقين المعرفي، وكذلك في نقد الحواس والعقل معاً وسحب الثقة منهما، وبما أن لكل نظرية مآخذها، لذا لا يمكن لمنهج ديكارت الشكي أن يكون كاملاً لا سيما وأنه ارتكز بكل قوة على الفكر المجرد، بحيث أدى به موقفه الفلسفي إلى استخلاص المحسوسات من العمليات الفكرية والتصورات الكلية، في حين، أن الواقع الخارجي له وجوده الحسي المستقل عن الفكر، فهو مقومة من مقومات الوجود، المادة والحركة والزمان والمكان.
إن اعتماد ديكارت على الفكر المجرد، ومنها اعتبار موضوعات التفكير الرياضي، حقيقة لا يتطرق إليها الشك، فإنه حول الواقع المادي المحسوس إلى تجريدات خالصة، وهذا خلل في نظرته الفلسفية، ثم إنه جعل الحقيقة ذاتية، وظن أنه يمكن أن يشك في العالم من حوله إلا نفسه المفكرة أو الشاكة، فإن هذا المبدأ في التفرقة بين الفكر والامتداد أو العقل والمادة اقتبسه ديكارت من ابن سينا في "نظرية النفس" وصاغه وفق منهجه الشكي، وهو بهذا القول، كما أشار كيركيجارد، إلى أنه أراد أن يتهرب من نتائجه المنطقية، لأن عملياته الشكية سوف تؤدي إلى أن يلتهم نفسه فلا يبقى له من شيء ولا حتى شكه. ولكن هذا لا يمنع من الإقرار بالدور الهائل والخطير الذي أسداه ديكارت للفلسفة بصفة عامة ولمذهب الشك بصفة خاصة.
وعن شكوكية هيوم ونقده إلى نظرية العلية وتعجيز العلم عن تحصيل المعرفة، فهو يدحض النظرة الواجبة والصحيحة تجاه طبيعة الفرضية، فما قاله عن العنصرين الكيميائيين الأكسجين والهيدروجين اللذين يكونان الماء، بأن وقائعهما في كل تجربة ومشاهدة تبقى ثابتة لا يعتريها التغير، فمن الواجب أن نفرق بين العلية في نتيجة معينة كما في التراكيب الكيميائية، وبين القانون العِلّي من حيث كونه الهوية الثابتة أو التتابع الذي لا يتغير كاستقراء منطقي لبعض من الوقائع التي نتناولها في التجارب.
إن تأكيد هيوم على أن المعرفة الوحيدة هي من خلال التضمن المنطقي فقط، ولكن هذا الموقف يعبر عن إجحاف وغبن بحق المعرفة الإنسانية. إذ إن هناك العديد من الطرق الأخرى غير التي نص عليها هيوم، أما عن رفضه إلى الخوارق والمعجزات، لأنه لا يؤمن بخرق قوانين الطبيعة، وبما أنه "مسيحي مؤمن" لذا كان من الواجب عليه أن يقر بأن الله الذي خلق هذه القوانين والنواميس بهذا العالم والكون، هو وحده القادر على اختراقها ساعة ما يشاء. وعليه، فإن الخوارق ليست تلفيقات أو أخطاء الناس.
ومع ذلك، فإن هيوم شأنه شأن ديكارت والغزالي، إذ لم يكن من أنصار الشكية المطلقة، إلا أنه جعل معرفة العالم أمراً ميؤساً منه، وفي الوقت نفسه جعل النظر بالفرضيات أمراً مفتوحاً. وهذا الموقف المترنح من دون حسم أدت به إلى اللاأدرية الشكية.