لم تطرق الفرحة أبواب لبنان هذا العام، وغابت أجواء الزينة عن الطرقات والساحات، حيث خرجت المدن اللبنانية من لعبة "أعظم شجرة" والمنافسة على "أجمل زينة"، في وقت انعكست الأزمة الاقتصادية والاختناق المالي على سلوكيات المواطن اللبناني الذي اعتاد على الاحتفالات المبهجة في الأعياد والمناسبات.
الفرحة من أجل الأطفال
لم تتمكن العائلات من شراء زينة الميلاد، وتأثرت عميقاً بالوضع الاقتصادي والقلق على مصير البلاد، واستغنى البعض عن الشجرة والمغارة، فيما أصرّ آخرون على تزيين صالونات المنازل من أجل الأطفال الصغار والأحفاد.
تعبّر السيدة كلود عواد، أم لثلاثة أطفال، عن حُزنها على الحال الذي آل إليها لبنان، فقد تعرض هذا الشعب للسرقة وعلى كافة الصُعُد بما فيها فرحة العيد. وتتذكر عندما كانت تضع الهدايا لأبنائها تحت الشجرة، وتطلب منهم كتابة رسالة إلى بابا نويل والبقاء منضبطين.
تضيف كلود، أن "الزينة لم تعُد تعني لها شيئاً، وبالتحديد في هذا العام والعام السابق"، إلا أنها تركت خيار تركيبها لأحفادها، وكذلك اختيار الزينة من بين المواد والأدوات التي سبق واستخدموها في الأعوام السابقة، واحتفظت بها لارتفاع الأسعار.
تُقارن كلود بين الوضع الراهن وسنين العز التي مضت على لبنان بقولها، "في السابق كانت التحضيرات تبدأ قبل شهر من العيد وكانت تنتشر الفرحة والزينة في كل مكان وكذلك أغاني وتراتيل العيد، أما الآن فأصبح كل شيء مؤجلاً ومعلّقاً، وتتخوف من أن يكون مجرد يوم عادي بسبب الضيقة المادية لأن العيد يحتاج إلى المال لتحقيق المتعة للأبناء".
امتدت استراتيجية ترشيد النفقات إلى الورد والنباتات ذات اللون الأحمر التي اقترنت رمزياً بعيد الميلاد، ويعود السبب في ذلك إلى أن النبتة الواحدة من "البوانسيتا" بلغ سعرها 20 ألف ليرة (2.5 دولار أميركي بحسب سعر الصرف في السوق السوداء)، فيما كانت 6 آلاف ليرة (3.97 دولار بحسب السعر الرسمي للدولار) في العام المنصرم، علماً بأنها محلية الإنتاج.
تبادل الهدايا على نطاق محدود
تتعدد مصادر الفرح في موسم الميلاد، ولا تقتصر على الزينة بل تتجاوزها إلى تبادل الهدايا. يستشعر الأهالي الحرج بين رغبتهم في شراء الأغراض التي يتوق الأولاد لاقتنائها وعجزهم عن الوفاء بهذا، في وقت خرجت الأسعار عن السيطرة من مجوهرات، وعطور، وملابس فاخرة، وأغراض شخصية.
لاحظ المواطن اللبناني الفرق الكبير بين السنة الحالية وسابقاتها، ووجدت العوائل نفسها مضطرة لتقليل هامش تبادل الهدايا والتجمعات العائلية بسبب الوضع الصحي. تتحدث كريستين يمين، أن العائلة اعتادت على تبادل الهدايا على نطاق واسع، وعدم اقتصارها على الدائرة القريبة الضيقة. وتصف أسعار هذا العام بالخيالية، لذلك تم تخفيف الزينة، واكتفت بإهداء الأطفال الصغار لأن "براءة الطفل لا تُقدر القيمة المادية للهدية". وتستنكر سبب مضاعفة الأسعار بصورة كبيرة لدى المؤسسات التي تمتلك بضائع قديمة في مستودعاتها، وتقول أنها أثناء محاولة شراء نجمة لوضعها على رأس الشجرة أزالت الثمن عنها واكتشفت أن الثمن الجديد يمثل أربعة أضعاف ثمنها العام الماضي. من هنا، تضطر كريستين إلى إعلاء القيم الروحية والمعنى الحقيقي للأعياد عبر تبادل المشاعر الطيبة في اجتماع العائلة، فـ"أمام أناس غير قادرين على تأمين الطعام لأبنائهم تتراجع مكانة تقليد توزيع الهدايا".
الهدايا الغالية
ينعكس الركود الاقتصادي ذاته على سوق الألعاب أيضاً، ويشبه عزام سامي، صاحب محل للألعاب، الوضع الراهن بالعزاء والحزن لأن الفرح أصبح صعباً، وكل سنة يسوء الوضع بدءاً من عام 2005. ويلفت إلى أن المواطن يحاول التكيُّف مع الواقع المستجد بفعل ارتفاع سعر صرف الدولار، والعيش بالحد الأدنى ليواصلوا حياتهم.
يوضح سامي أن ثمن البضاعة على الدولار ما زال على حاله، أما المشكلة فتتمثل في أن الدولار كان بـ1500 ليرة، واليوم بـ8300 ليرة في سوق الصرف السوداء. لذلك يحاول بعض التجار تقديم التسهيلات لزبائنهم. وعلى رغم ذلك فإن أكثرية الزبائن يدخلون إلى المحل للسؤال قبل المغادرة من دون الشراء بسبب ارتفاع الأسعار مقارنة بالحد الأدنى للأجور. فاللعبة التي كان ثمنها 75 ألفاً كانت تساوي 50 دولاراً، أما الآن إذا ما بيعت بـ150 ألف ليرة فهي توازي 18 دولاراً بالسوق السوداء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما ابتعد الناس عن شراء الهدايا البراند، لأن أرخص عروسة قيمتها 20 دولاراً، ولا سبيل لمن يمتلك عدداً كبيراً من الأبناء والأحفاد لإفراحهم جميعاً.
ويشير إلى أن "شهر الأعياد صورة عن وضع البلد حيث تراجع الطلب خلال كافة الأعياد الوطنية والدينية"، إذ انسحبت حالة الصمت على زينة الشوارع والطرقات. ويوضح سامي أن شركته لم تتلقَ أي طلب من بلديات أو مؤسسات كبرى للتزيين والإضاءة على خلاف السنين الماضية التي شهدت تنافساً لإعداد أضخم شجرة، وأجمل زينة، وأفخمها. وينتقد قيام البعض باستبدال شجرة الميلاد الصناعية بأخرى طبيعية من خلال قطع أشجار الصنوبر والشوح، لأن هذا مؤشر على عدم الوعي البيئي.
الألعاب الرقمية
لا تكتمل فرحة أطفال الجيل الرقمي إلا بالألعاب الإلكترونية، إلا أن تسعيرها بالدولار يجعل منها عبئاً على كاهل الأهل. وعلى سبيل المثال فإن PS5 يبلغ ثمنها نحو 500 دولار، فيما يتم الترويج لها في لبنان عند حدود 1200 دولار بسبب السوق السوداء.
يشير زياد سالم، مهندس تكنولوجي، إلى أن طرح هذه اللعبة كان بأعداد محدودة، ولا بد من الطلب المسبق Pre-order للحصول عليها. لذلك ينصح بانتظار الطرح الرسمي في مارس (آذار) 2021، لأن الألعاب التي سيشتريها المستهلكون من إصدار PS4، لذلك يُفضل شراء PS4 مستعملة بحدود مليون 600 ألف ليرة لبنانية أو PS3 بسعر 450 ألف ليرة (297.69 دولار)، وثمن القرص المدمج للعبة 60 دولاراً. وينسحب هذا الأمر على من يريد شراء كمبيوتر لوحي، أو هاتف ذكي لأنها بضائع مستوردة ويتم تأمينها بالدولار، على سبيل المثال يتجاوز ثمن ipad الـ800 دولار.
غداء العيد على اللبناني
امتدت حسابات الورقة والقلم إلى غداء العيد، لأن الميزانية لم تعُد قادرة على تطبيق استراتيجية Cheese and Wine. تؤكد كلود عواد أن العائلة كانت تجتمع حول "الشومينيه" في منزل الابن البكر الذي كان يعتمد أسلوب الحياة المرفهة، ويُعد "بوفيه" فاخراً يتضمن أفخم الأجبان الأوروبية، والكافيار، وغيرها من الأصناف مثل الكانار (لحم البط). وتشير إلى أنها دخلت في نقاش مع أبنائها من أجل اعتماد النمط اللبناني في المطبخ، والاستعاضة عن الأطباق الأجنبية بالتبولة، والفتوش، والكبيبات، والمعجنات، إلا أنها تؤكد في المقابل أن هناك حدوداً لترشيد النفقات أو "شد الفرامل"، لأن هناك ثوابت لدى العائلة التي اعتادت على الأطباق اللذيذة من المحاشي وأرز بالدجاج.
زاد عبء تكاليف العيد ليصل إلى الضيافة والحلويات، فـثمن العلبة الواحدة من الشوكولاتة تجاوز 180 ألف ليرة. الأمر نفسه بالنسبة إلى البقلاوة بالفستق لذلك بدأ التفكير في إعداد الشوكولاتة بالمكسرات في المنزل. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حلوة "البوش" التي تُعتبر من ثوابت المطبخ الميلادي.
كما تأثرت أجواء العيد بالزائر الثقيل كورونا، فقد انعكس التباعد الاجتماعي وسادت حالة من فتور العلاقات، وزيارات المعايدة، والطقوس والصلوات الجماعية. ومن المتوقع استمرار هذا الأمر لسنوات، مما سيؤدي إلى تغييرات دائمة في الثقافة والمجتمع.