بين ليلة وضحاها، تحولت "المنقوشة" إلى نجمة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ويعود الفضل في ذلك إلى توجّه الحكومة لرفع الدعم عن مادة الطحين، وحصره في صنف الخبز العربي.
مع هذا القرار سيحلّق سعر "المنقوشة"، وتطير الترويقة من البرنامج اليومي للفقراء، لتصير سراباً على غرار سلة السلع المدعومة تحت وطأة اختفاء الدولار الأخضر. واختصرت مقولة "والله وصرتي كلاس"، المكانة المستجدة للمنقوشة، فهي لن تكون في متناول الفقراء ومن يتقاضى الحد الأدنى للأجور، وستصبح "أكلة الأغنياء".
"التواصل" يحتفي بالمنقوشة
على وقع الصدمة، استقبل اللبناني خبر رفع الدعم عن الطحين، الذي سرى في مواقع التواصل الاجتماعي مسرى النار في الهشيم. واحتل وسم "#المنقوشة" الترند اللبناني، وأظهر المغردون كثيراً من الإبداع وروح النكتة لدى المواطن اللبناني، الذي يستخدم أسلوب السخرية لنقد الأوضاع التي يعيشها. تلقف المتفاعلون هذا التوجه بآراء متفاوتة بشكل كبير، فرأى بعضهم أنه "ينم عن خفة الظل والظرافة"، فيما وجد فيه آخرون خفة كبيرة وقرأوا في الفكاهة "سطحية وتفاهة"، قد تدفع الساسة لتمرير أي قرار مرور الكرام من دون أخذ الرأي العام بجدية.
من جهة أخرى، أعادت المنقوشة إحياء نتاج الفنان المصري إيهاب توفيق (أحد نجوم التسعينيات)، إذ أعد "المراسل الطرابلسي" (صفحة لبنانية على موقع "فيسبوك") فيديو للمنقوشة على وقع أغنية "انسى انساني.. أرجوك ما ترجعش تاني" مع مواطن يجهش في البكاء، مطلقاً مرحلة "المنقوشة الذكرى" التي انفصلت مكرهة عن سفرة المواطن الفقير. ولم يتأخر البعض في التماس عذر من منطلق الحمية الغذائية، لأن "المنقوشة بتنصح (تزيد الوزن)"، ليخلص إلى أن "المنقوشة أصبحت للأغنياء فقط".
منقوشة الفساد
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استحضرت وسائل التواصل الاجتماعي بعض تهم الفساد، وعادت بالذاكرة إلى الملفات التي شغلت الرأي العام اللبناني بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) الماضي، وسوء تصرف السلطة اللبنانية مع المساعدات التي وصلتها وما رافقها من تهم، فالمنقوشة التي يتوقع أن يبلغ سعرها 5 آلاف ليرة لبنانية، مكوناتها "طحين عراقي، زيت نباتي مقدم من السعودية، زعتر مقدم من المملكة الأردنية"، وما يصاحبها من عرض خاص، "كوب شاي سيلاني For Free (مجاني)، تقدمة سيريلانكا"، في إشارة إلى المؤن الغذائية التي قدمتها هذه الدول إلى لبنان عقب الانفجار.
فطن المغرد اللبناني إلى تأثير المنقوشة في الشرائح اللبنانية كافة، فالمواطن على اختلاف انتماءاته السياسية يعاني الوجع نفسه، ولاحظ عبثية المشهد فقراء يجوعون، تستعبدهم الطائفية والاختلافات السياسية الظرفية، وتساءل آخرون عما إذا كان "العونية والمستقبل والقوات والكتائب وأمل والحزب والاشتراكية، (الأحزاب اللبنانية)، يأكلون نفس المنقوشة أو مناقيش مع الحكم، ومناقيش ضد؟"، وصولاً إلى إعلان اليأس من التغيير بالثورات الافتراضية البعيدة عن الأرض والساحات.
كما تم استشراف مستقبل المنقوشة لتصل إلى ما وصلت إليه الفلافل والاستغناء عن "الكبيس" (المخللات) و"البندورة" (الطماطم) في السندويتشات.
فيما لفتت شريحة إلى استغلال التجار الدعم لتحقيق أرباح كبيرة، وحرمانها المواطن. وغرّد وزير الصناعة السابق فادي عبود، "سؤال بسيط، هل تبيع الأفران الكعك والخبز الفرنجي وخبز الهامبرغر بأسعار مدعومة؟ يريدون طحيناً مدعوماً للمنقوشة ويبيعونها بـ 3 آلاف ليرة، ورغيف الخبز المدعوم بـ 250 ليرة".
المنقوشة ملجأ العامل اليومي
لسنوات عدة، شكّل العمل في بيع المعجنات متنفساً للعائلات المحدودة الدخل. ففي مدينة طرابلس، ينتشر عدد كبير من العربات و"الكيوسكات" التي تبيع المنقوشة على الصاج. أحد هؤلاء، أبو عمر بدرة، يمتلك بسطة لبيع المنقوشة في منطقة التبانة.
اتجه بدرة إلى هذا العمل بعد أن ضاقت به الأحوال وفقد فرصة العمل، ووفرت المنقوشة مورد عمل ومصدر معيشة له ولعائلته، "قبل الغلاء، كان يتنفس المواطن قليلاً، أما الآن فالشعب مخنوق".
خلال الفترة الأخيرة، بدأ يتعرض للابتزاز من تجار المواد الأولية، وتحديداً الغاز والطحين. يقول بدرة، "كان بعضهم يبيع كيس الطحين بـ 175 ألف ليرة، وآخر بـ 200 ألف، ويخيّرون المشتري بين دفع الثمن أو حرمانه من الطحين، وصولاً إلى انقطاعه اليوم، إذ مهدوا لذلك ببيعه بالمفرق ليبلغ ثمن الكيلوغرام الواحد بالأمس 4 آلاف ليرة".
أزمة البائع والزبون
لا تقع الأعباء على الزبون، وإنما تتجاوزها إلى أصحاب الأفران والمصالح. ويعتبر مصطفى القهواتي (صاحب محل معجنات)، أن الضجة المثارة حول المنقوشة أمر طبيعي، إنما تأخرت بعض الشيء لأن أصحاب المحال شعروا بها قبل غيرهم. ويوضح القهواتي أن ارتفاع أسعار المواد الأساسية لا يتوقف عند الطحين، وإنما يتجاوزه إلى الزيت الذي تضاعف ثمنه خمس مرات، وكذلك الأكياس والورق. ويلفت إلى أن "ثمن الزعتر والجبنة قصة أخرى"، مشيراً إلى أن "ثمن المنقوشة تفرضه المنطقة التي توجد فيها المؤسسة، ففي المناطق الشعبية لا يمكن أن يتجاوز ثمن المنقوشة بالزعتر سقف الألفي ليرة، وإلا سيتوقف الفقير عن شرائها".
أمام هذا الواقع، سيصل بعض أصحاب المؤسسات إلى المفاضلة بين الخسارة وإقفال المؤسسة مؤقتاً بسبب الغلاء وارتفاع أسعار المواد الأولية، فيما يبقى على الدولة واجب التدخل لإنصاف المواطن، وألا يكون خفض حجم السلة الغذائية على حساب الشريحة الأضعف، إذ تؤكد أوساط وزارة الاقتصاد أن "لبنان يحتاج فقط 35 ألف طن من الطحين شهرياً"، لتغطي هذه الكمية سوق الاستهلاك المحلي من خبز عربي وأجنبي وكعك ومنقوشة وغيرها من المنتجات.
في المحصلة، لم يعد للفقير اللبناني شيء يتلذذ به، حتى المنقوشة بدأت تنازع وتلفظ أنفاسها الأخيرة، كما أن التضييق على الحريات، دفع وسائل التواصل الاجتماعي لتكون المتنفس الأخير للتعبير، وسؤال الحال، "أين ذهب الدعم وضاع المنتج المدعوم؟".