بات من النادر أن نشاهد، ممثلة تحصل على مساحة محترمة في الفيلم التجاري المصري سواء على مستوى عدد المشاهد وتأثيرها على الأحداث، أو على مستوى ظهورها في الإعلانات الترويجية للأفلام. يستحوذ النجوم الرجال على معظم المساحات، يسخرون ويتوعدون ويتقاتلون وأحياناً يقفزون في الهواء، وحتى أمهر النجمات، يتراجعن بإرادتهن خطوة عن البطل.
العام الماضي مثلاً تشاركت نجمتان هما نيللي كريم وهند صبري البطولة الثانية بعد النجم كريم عبد العزيز في فيلم "الفيل الأزرق 2" الذي اعتبر وفقاً لبعض النقاد فتحاً في السينما المصرية المعاصرة! عبرت كل نجمة منهما في مناسبات عديدة عن فخرها بالمشاركة على الرغم من السلبية الواضحة التي تسم دوريهما، وعلى الرغم من أن كلاً منهما بطلة مطلقة خارج حدود الفيلم الأزرق.
يعود هذا التأخر النسوي في بطولة الأفلام التجارية المعاصرة لأسباب عديدة تستحق ربما مقالاً منفرداً، لكن على أي حال، تعتبر حالتا ياسمين عبد العزيز ومنى زكي استثناء من هذه القاعدة. ياسمين النجمة الكوميدية هي البطلة الأولى لأفلامها منذ سنوات.
ومنى زكي تعود بعد ثلاث سنوات من الغياب عن السينما، ببطولة هذا الفيلم "الصندوق الأسود" الذي يعرض حالياً في الصالات المصرية ويتصدر شباك التذاكر بتحقيقه أعلى الإيرادات وفقاً لعدة صحف ومواقع مصرية، وبالتزامن مع عرض "الصندوق الأسود" تحتفل منى هذه الأيام أيضاً بتكريمها من مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الحالية، وحصولها على جائزة "فاتن حمامة" للتميز.
"الصندوق الأسود"، كتب له السيناريو أحمد الدهان وهيثم الدهان، ومن قصة وإخراج محمود كامل، وإنتاج جابي خوري ورمزي خوري.
في البداية تأخذنا الكاميرا إلى وعي "ياسمين" أو منى زكي، ترينا العالم بعينيها وتحيط بها وترعاها، من خلال اللقطات المقربة لها، وشريط الصوت الذي يبث أدق أناتها نتعرف عليها، هي الحامل في الشهر الأخير، وتتنقل وحيدة في المستشفى الكبير على الرغم من التعب. هي أيضاً حساسة للغاية، وتنقلب حساسيتها أحياناً إلى شبه نوبات الفزع (تواجه ياسمين مثلاً صعوبة في البقاء داخل الأسانسير المغلق وتضطر إلى النزول على الدرج)، إضافة إلى تسامحها عندما يخبرها زوجها "جاسر"، يلعب دوره شريف سلامة، أنه سيغيب عن الاحتفال بعيد ميلادها هذه الليلة، بسبب ظروف عمله بعيداً عن القاهرة.
في رحلة شاقة تعود ياسمين إلى الفيلا، لتكتفي بمرافقة كلبتها الصغيرة، وتنضم إليها أحياناً صديقتها الودودة "سارة" تلعب دورها أسماء جلال. برسم هذه التفاصيل للشخصية في مشاهد طويلة إلى حد ما، يربط المخرج محمود كامل المتفرج ببطلته الطيبة، ويمهد لإثارة الخوف عليها، حين تتعرض لاحقاً للحادثة التي يدبرها لها القدر، وتستحوذ تقريباً على ثلاثة أرباع الفيلم، حادثة اقتحام لصين الفيلا ليلاً لسرقة مستندات مهمة تخص عمل الزوج جاسر، دون أن يعرفا أن ياسمين لا تزال في الداخل. وقد تكون هذه الحادثة المخيفة هدية من القدر.
فيلم تشويق
ينتمي "الصندوق الأسود" إلى نوع أفلام التشويق (Thriller)، الذي يعتمد على إثارة قلق المتفرج على أبطاله كوسيلة للإمتاع، بوضع الأبطال في موقف يصعب عليهم الخروج منه، ويختلف هذا النوع عن أفلام الرعب (Horror) في أن الأخير يثير خوف المتفرجين على أنفسهم، وليس على الشخصيات.
وهكذا تبدو ياسمين بطلة مثالية بضعفها الجسدي وحساسيتها النفسية، كما يخشى أيضاً على مصير الجنين المنتظر "زين"، لا سيما أننا نعرف في البداية أنها قد فقدت من قبل عدة أجنة، وأن فرصتها إذا خسرت هذا الحمل أيضاً في الحصول على طفل تكاد تكون معدومة. إذا نخشى على ياسمين وعلى الجنين زين، وسنخشى أيضاً من سلوك أحد اللصين وهو "سيد"؛ يلعبه محمد فراج الذي يظهر بمكياج متقن يرخي قليلاً أحد عينيه، ما يعطي الانطباع بالاختلال النفسي، وبشقوق في خديه نتجت عن ضربات، لا بد أن وجهه قد تلقاها من سكاكين أو "مطاوي" في معارك سابقة، إنه المجرم في صورته المثالية.
على العكس منه، هناك "هادي" الاسم على مسمى، وهو المحرض على السرقة وهدفه كما يقول "جايين نسرق شوية ورق ونمشي على طول"، بتدبير من أحد خصوم جاسر، لسبب يؤخر الفيلم إعلامنا به من أجل المزيد من التشويق. و"هادي" هو أحد الموظفين في مكتب "جاسر"، وبهذه الطريقة من المفترض أنه يعرف كثيراً عن غريمه.
لا يبرر لنا الفيلم، كيف صار "هادي" على هذا اليقين، من أن ياسمين ستغادر الفيلا في ليلة عيد ميلادها، إذا كانت هي نفسها قد غيرت خطتها في اللحظة الأخيرة، وفضلت البقاء في البيت. كما يكشف اللصان اللثام عن وجهيهما بمجرد دخولهما إلى الفيلا، (كأن اللثام مجرد كمامة وليس لإخفاء هويتيهما!)، والمنطقي أن في الفيلا، كاميرات مراقبة، كما سيظهر لاحقاً.
تتأرجح ياسمين التي تستيقظ من نومها لتكتشف الغريبين المرعبين فجأة في بيتها، بين ارتباك "هادي"، الذي لا يعرف كيف يتصرف إزاء مفاجأة وجود السيدة الحامل، فيضطر إلى تقييدها في سريرها بالحبال، على الرغم من توسلاتها؛ و"سيد" الذي لا نعرف حدود إجرامه، وينمي السيناريو هاجس تحرشه الجنسي بها، عندما يسرق تليفونها المحمول ويبدأ في التقليب بين صورها الشخصية، ثم يتعاطى المخدر، ويفقد الاتزان تماماً. هكذا يحكم السيناريو قبضته حول عنق ياسمين، الضحية المثالية كما جعلنا نرى في البداية.
بعد فشل المحاولة الأولى للصين في الوصول إلى مستنداتهما المزعومة، يتلقى "هادي" مكالمة من أسرته، يعرف منها أن والده العليل قد نقل إلى المستشفى، وأن عليه الحضور فوراً لمتابعة حالته، فينسحب من منتصف الأحداث مؤقتاً، ذاهباً إلى أبيه. حدث غريب وغير مقنع! لكن هكذا يدفع الفيلم "سيد" المجرم للانفراد بضحيته. "أنا عارف إنك مش مفروض تكوني هنا"!
بعد قليل يتسحب "سيد" إلى سرير ياسمين، ويبدأ في تأملها وهي فاقدة للوعي إثر ضربة على رأسها، وفي هذه الأثناء تستيقظ لتجد نفسها بهذا القرب من الرجل القبيح والمخيف (ربما نتذكر أسطورة الجميلة والوحش)، وهو يبدي تجاهها حناناً مفاجئاً ويطلب منها أن تلمس وجهه، ليحظى منها ببعض الحنان المحروم منه لقبحه.
يقول لها: "أنا عارف إنك مش مفروض تكوني هنا، بس معلش بقى نصيبك"، ثم يبدأ في سرد قصته لها، حين كان صبياً، وتسلل ليتفرج على امرأة تلد. يبدو أنه شعر بالرغبة تغزوه في ذلك المشهد القديم، وها هي الرغبة تعود إليه الآن، هذا ما نحدس به، لكن الفيلم لا يخبرنا به مباشرة. إذاً ماذا يريد منها الآن "سيد"؟ لا نعرف غير أننا نخشى بصورة مضاعفة على ياسمين، وتستغل هي الموقف لصالحها فتطلب منه أن يحررها من الحبال، وباستردادها جزءاً من حريتها تعود إلى المقاومة ويبدأ النصف الثاني من المعركة.
يتصاعد التوتر بانتقال ياسمين إلى الغرفة المصفحة، بيت أسرار زوجها جاسر، أو صندوقه الأسود. غرفة تذكرنا بغرف عديدة في أفلام أميركية، منها مثلاً "panic room"، هي تتحصن بالغرفة تاركةً "سيد" يتخبط في الإصابات التي مني بها، و"هادي" ينعي حظه التعس باستمرار ويترجاها أن تفتح له الباب كي يأخذ فقط المستندات المطلوبة ويذهب، بينما تدخل هي في دوامة نفسية، في المكان المغلق، قليل التهوية، وليس فيه طعام أو شراب، إنها إذاً تخوض نوعاً من الرحلة النفسية التي تسبق اكتشافها شخصية زوجها الحقيقية.
فجأة، يتلقى "هادي" عدة مكالمات من جهة مجهولة، ولسبب ما تبقى مجهولة حتى نهاية الفيلم، تهدده بقتل أبيه المريض في المستشفى وتضغط عليه لإتمام انتزاع تلك المستندات، ويؤدي ذلك التهديد إلى تضييق الخناق على الثلاثة أبطال الذين يصبحون جميعاً سجناء الفيلا، لهذه الليلة.
الزمن النفسي
يطول الزمن النفسي الذي تختبره ياسمين في هذا السجن، ويعبر المخرج عن الفكرة بمشهد فقدانها المؤقت للوعي، وحلمها بالغرق في عمق البحر، الذي يذكر بمشاهد من أفلام أميركية تنتمي لنفس النوع، ويتقاطع أيضاً مع مشهد مشابه في فيلم "أدرينالين" للمخرج نفسه.
يتزامن هذا الغرق الرمزي، الذي يشي بعجز ياسمين عن التصرف مع محاولات اللصين البائسة في اقتحام الغرفة المعزولة، ومنها مثلاً تسريب المياه إلى الداخل، لتخويفها من الغرق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تترجم منى زكي بأسلوبها التمثيلي الذي تستحق عليه التحية بلا أدنى شك، بملامح وجهها وانقباض عضلاتها وبالتأكيد بنظرات عينيها عن معاناة "ياسمين" النفسية ومشاعرها الدقيقة. التي بسقوطها إلى قعر مخاوفها، ولاعتقادها أنها ربما تكون قد خسرت بالفعل جنينها، تستيقظ لتواصل المقاومة ضد اللصين دون خوف. يهديها حدسها إلى فتح الحاسوب الشخصي لجاسر، وهناك ستكتشف فضائحه وفساده، ويتغير موقفها من كثير من الأشياء.
كان أداء محمد فراج ممتعاً، وقدم مصطفى خاطر شخصية الشاب "الغلبان"، المتعثر المثير للرثاء، بطريقته المعتادة، بينما عمل مدير التصوير الأجنبي "إريك دفين" على صناعة صورة مثيرة في الظلام سواء داخل الغرفة أو في مشهد البحر. ومع الاعتراف ببعض مناطق الضعف التي كان يمكن تفاديها في السيناريو، يبقى "الصندوق الأسود" فيلماً جذاباً يمد يده للبطلة ولا يضحي بها لصالح الرجال كغيره من الأفلام.