أثارت قضية تدحرج بعض المؤسسات الاقتصادية الوطنية في الجزائر إلى حافة الإفلاس، جدلية اللجوء إلى سيناريو "الخصخصة" كخيار حتمي، وإن ارتبطت هذه الخطوة بتجربة مريرة لم يجنِ منها الاقتصاد الوطني في تسعينيات القرن الماضي، سوى نهب مقدرات البلد من قبل مسؤولين ورجال أعمال تحت شعار حماية "ممتلكات الدولة".
لا تستبعد الحكومة الجزائرية، إسدال الستار على مؤسسات عريقة ظلت تزوّد السوق الوطنية بمنتجات محلية لعقود من الزمن وتمتص البطالة، بيد أن الواقع تغير بإحالة المئات منهم إلى البطالة الإلزامية، إذ لم تعد الخزينة العامة قادرة على تغطية العجز المسجل من قبل هذه المؤسسات، بسبب تداعيات تراجع مداخيل أسعار البترول واستقراراها عند مستويات متدنية، في بلد تُشكل فيه مداخيل قطاع المحروقات (نفط وغاز) أهم مورد مالي.
إحصاء للشركات المفلسة
لمعالجة هذا الوضع المتأزم، أعلن وزير الصناعة الجزائري فرحات إبراهيم آيت علي، عزم الحكومة على فتح رأسمال يخص فقط المؤسسات العامة التي تحتاج إلى إعادة رسملة دورية، للسماح بإنعاشها وإعادة إدخالها في الدورة الاقتصادية، بعد تعطل العمل في بعض منها تابع للدولة.
وأشار المسؤول الحكومي، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الجزائرية، وجرى تداولها على نطاق واسع من قبل الإعلام المحلي، لما يشكله هذا الملف من أهمية، إلى "أن الأمر يتعلق أولاً بالقيام بدراسة شاملة للقطاع العمومي لتحديد ما يمكن تخصيصه ووضع شروط للحصول على رؤوس أموال"، معتبراً أن الخيار الأمثل لفتح رأس المال هو من طريق البورصة للسماح للموفرين الجزائريين بإعادة تمويل النسيج الصناعي الوطني، ما يخفف الضغط على الخزينة العمومية.
وزير الصناعة الجزائري، قال، إن اجتماعاً سيعقد قريباً يضم بعض المؤسسات العمومية التي تواجه صعوبات ومديري البنوك العمومية، لمناقشة مخطط إنعاش دائم لها.
والمؤسسة الوطنية للصناعات الكهرومنزلية، المعروفة بـ"أونيام"، واحدة من الشركات العمومية التي تُواجه مَصاعب مالية كبيرة، إذ يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1983 وساهمت على مدار عقود في خلق مناصب عمل، وتزويد السوق الجزائرية بأجهزة مثل الثلاجات والمكيفات ومسخنات الماء وآلات الطبخ، فاقت في جودتها سِلعاً مستوردة من الخارج، إلا أنّها أعلنت أخيراً إحالة عدد من العمال إلى البطالة التقنية، الذين رفضوا بدورهم القرار، مُطالبين الحكومة بالتدخل لإنقاذ مصدر رزقهم ووضع خطة إنعاش.
لا خيار آخر
في هذا الصدد، يرى سليمان ناصر الأستاذ في كلية الاقتصاد في إحدى جامعات الجزائر أنّه "لا يمكن الاستمرار في ضخ أموال (على شكل قروض) في مؤسسات اقتصادية عمومية مفلسة، وهي تعمل في قطاع حيوي وتنتج منتجات يطلبها السوق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال "المشكلة في سوء التسيير والإدارة أكثر مما في البيئة والقوانين، وهو المعضلة الذي يعاني منها القطاع العمومي بشكل عام والتي يمكن أن يعالجها القطاع الخاص".
وأضاف المحلل الاقتصادي "صحيح أن وزير الصناعة بطيء في إجراءاته واتخاذ قراراته وهو ما يُعاب عليه حالياً، لكن للأمانة يجب أن نعترف بأن قطاع الصناعة يعاني تراكمات لا تعود للنظام السابق فقط بل حتى إلى النظام الاشتراكي، ما يعني أن حل مشاكله لن يتم بين ليلة وضحاها، وربما ما يزيد في ذلك البطء، ما يراه الوزير حالياً من مصير سابقيه في هذا القطاع"، مع إحالة وزراء صناعة عدة على السجون، لتورُطهم في قضايا فساد.
لجوء الحكومة الجزائرية إلى قرار الخصخصة، يستند إلى بند المادة 62 من قانون الموازنة لعام 2016، والذي أجاز فتح الرأسمال الاجتماعي للمؤسسات العمومية الاقتصادية لفائدة المساهمين الوطنيين المقيمين (ما يعني استبعاد الأجانب وغير المقيمين)، والاحتفاظ بنسبة 34 في المئة من الأسهم، أي خصخصة ثلثي رأس مال المؤسسة.
يمكن للمساهم الوطني المقيم بعد خمس سنوات من هذا الإجراء ومع احترام التعهدات كلها، وبعد إجراء المعاينة، أن يتقدم بطلب شراء بقية الأسهم إلى مجلس مساهمات الدولة، وبعد الموافقة تتم عملية التنازل بالسعر المتفق عليه مسبقاً أو الذي يحدده المجلس.
مهمة الإقناع
تطمينات الحكومة بأن التوجه الاضطراري نحو تصفية الشركات المفلسة خيار حتمي يفرضه منطق الفعالية الاقتصادية، لا تضع حداً للمخاوف من إمكان التفريط بمؤسسات الدولة بالدينار الرمزي، ثم غلقها وتسريح العمال.
مع تداول هذه الفرضيات، يُحاول الجهاز التنفيذي إقناع الرأي العام الجزائري بأنّ الخصخصة ليست مشكلة في حد ذاتها، لكن تطبيقها من قبل الحكومات السابقة كان كارثياً إذ تم بيع بعض المؤسسات العمومية بالدينار الرمزي.
وشهدت الجزائر بداية التسعينيات، تفكيكاً لمئات المؤسسات العمومية التي كانت تمثل القلب النابض للصناعة الوطنية ورمزاً للسيادة الاقتصادية، وسرّح آلاف العمال، تحت ضغط مؤسسات مالية دولية، استغلت الظروف الأمنية التي مرت بها البلاد إبان العشرية السوداء التي فرضت حصاراً على الجزائر، قادتها إلى الاستدانة الخارجية.
لكن هذا الوضع لم يكن مُبرراً لدى شريحة واسعة من الخبراء والمتابعين للشأن السياسي والاقتصادي، كونه لا ينفي التسيير الكارثي والبيروقراطي لوزراء الحكومات المتعاقبين في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019)، بسبب السياسات الخاطئة والمدمرة للاقتصاد الوطني، من خلال فتح الباب على مصراعيه أمام الاستيراد العشوائي وسوء استغلال أموال البترول، ما ضاعف من حجم الفساد وطال قطاعات عدة.
بناء على هذا المعطى، لا تبدو الحكومة الحالية في منأى عن مرمى الانتقادات، إذ رفعت تشكيلات سياسية في الفترة الأخيرة مطالب تغييرها بطاقم قوي أكثر نجاعة، قادر على استيعاب متطلبات المرحلة الصعبة التي تمر بها الجزائر على الصعيدين الداخلي والخارجي.