ذهب المخرج جود سعيد في فيلمه الجديد "نجمة الصبح" (100 دقيقة) إلى تقديم ما يشبه مراجعة لسنوات الحرب السورية، متكئاً على سيناريو من كتابته بالتعاون مع سماح القتال. الشريط الحائز جائزة الجمهور في مهرجان "أيام قرطاج السينمائية" لعام 2019، افتتح مؤخراً عرضه الخاص الأول في صالة "كندي دمر" في دمشق، ليكون عنوان الفيلم بمثابة عتبة خاصة لرواية قصته. فنجمة الصبح في الميثولوجيا العربية هي الكوكب الذي كانت بعض القبائل تقدم له القرابين بصورة وحشية لحظة ظهوره. ويروي كل من المؤرخ إسحاق السرياني، والكاتب الكلاسيكي نيلوس (410م) أن المنذر ملك الحيرة ضحى لهذه النجمة بابن الحارث ملك غسان عندما وقع في يده أسيراً، كما ضحى لها بأربعين من النساء اللاتي كن متنسكات في أحد أديرة العراق.
هذه الوقائع تتقاطع بقوة مع أحداث الفيلم في مقاربة بدت صادمة في تناولها الحدث السوري، وذلك عبر حكاية تبدأ بمشاهد لعزاء وعرس في آنٍ واحد، لنتابع جنازة شاب قضى في الحرب. وكذلك نتابع أباه (يوسف المقبل) يموت كمداً على ابنه، رافضاً تصديق خبر رحيله، في حين نتابع لقطات لزفاف عبد الحليم حافظ (كرم الشعراني)، لقب أحد شبان القرية، الذي لقي مصيراً دموياً هو الآخر بعد اجتياح القرية بزعامة عارف (لجين إسماعيل) للانتقام من شقيقه خلدون (محمد الأحمد)، وذلك على خلفية منافستهما على حب كل من نجمة (يارا صدقي)، ونسمة (ناديا صدقي)، الشقيقتين التوأم اللتين تعرضتا للاختطاف، فتموت الأولى مع جنينها، وتبقى الثانية شاهداً على ما عانته نساء قريتها المختطفات معها، ورهينة لتبادل أسرى يجري لاحقاً بين طرفي النزاع.
هكذا، تتواصل القصة محاطة بالتباس أدوار القاتل والقتيل، والجلاد والضحية، دون أن يخل الطرح الفني بالتوازن بين قطبي الصراع. فالشقيقان عاشا وترعرعا بين قريتهما وقرية حبيبتيهما، ووالد الشقيقتين التوأم (حسين عباس) يعيش هو الآخر تناقضاً قاسياً بين خطيب ابنته الميتة، الذي هو في الوقت ذاته شقيق القاتل، وخصمه في المواقف والمبادئ. وهذا ما يدفع في النهاية إلى تصفية حسابات مؤلمة بين الشقيقين، ينتهي بمقتل عارف على يدي ابن أخته بعد مشاهدة هذا الأخير عملية ذبح رفيقه، وبيع خلدون لكليته، مقابل الإفراج عن حبيبته، والتي يعتقد بأنها ما زالت على قيد الحياة.
مراقبة الحدث
مفارقات تتعاقب مع كوادر باذخة، ولقطات واسعة، وأخرى عريضة وقريبة ومتوسطة، تحتل فيها الكاميرا زاوية تصوير خاصة، متلصصةً على الحدث، فتراقبه دون أن تتدخل فيه، وتتابعه بأناةٍ (مدير التصوير الراحل عقبة عز الدين)، وتتعقبه بعين روائية. ومعها يتحول السرد البصري إلى لغة صورية لافتة بين ريفي دمشق واللاذقية، مترافقاً مع موسيقى محايدة (سمير كويفاتي) رفضت أن تكون مجرد تعليق على أحداث الفيلم، بل كانت أرضية ملائمة لتطور القصة، دون أن تصير عائقاً بين الشاشة والمتلقي.
جود سعيد (ماستر في الإخراج السينمائي - جامعة لوميير - ليون) في هذه التجربة، مضى بعيداً في نقل معاناة النساء في الحرب، مستثمراً خبرته من تجاربه السابقة في هذا السياق. لكن هذه المرة يبرم عقداً خاصاً بين المأساة والسخرية، فالحرب تعود بالشاب الميت الذي قضى أبوه حزناً على فراقه، لنكتشف أنه لا يزال على قيد الحياة، لكن عودته إلى قيود السجل المدني تكون شبه مستحيلة، فلا هو بالحي، ولا بالميت، في مفارقة تضاف إلى كم المفارقات التي يسوقها "نجمة الصبح" بعيداً عن منصات السياسة وأخبار المعارك الدائرة بين ذات البين. من هنا يلملم المخرج خيوط حبكته ذات الطابع الكورالي، والمتعدد في سرده البصري تبعاً لحركة الكاميرا، ودورانها المستمر واللاهث لمطاردة شخصيات الفيلم، منجزاً رؤيته الإخراجية الخاصة عن الحرب، حيث تدفع النساء القسط الأكبر من أثمانها الباهظة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إدارة مميزة للممثل في "نجمة الصبح" تجلت في الأدوار الرئيسة بالقدر ذاته مع الأدوار المساندة والثانوية، ما خلق نوعاً من التماهي بين الأحداث والشخصيات، وكثافة نفسية لها تجلت في المونتاج المتناوب (رؤوف ظاظا)، الذي عمل على خلق حياة موازية لوقائع الفيلم، وأعطى مستويات رمزية لقراءة الشريط. فالخصومة والعداوة والصداقة والحب الرومانسي والقتل ذبحاً؛ جميعها كانت تسير على طرفي نقيض، لكنها في لغة المونتاج تجاوزت سردها التقليدي للمشاهد، ونجت من فخ الخطاب المباشر، لتمضي في إعادة تمثيل الجريمة سينمائياً، والسيطرة على عامل الإيحاء عبر الصورة، إذ تمكن المخرج من ضبط زوايا التصوير والعمق، وذلك بهدف تحقيق وحدة في الأسلوب والمعالجة الفنية، بغية محاكاة أحداث واقعية من الحرب السورية.
بالمقابل دمج مخرج "نجمة الصبح" بين مناخات لونية وبصرية متضادة، مولفاً بين بيئة ريف الساحل وأنفاق مدينة دوما، خالصاً إلى تشويق من نوع خاص، جاعلاً من انتظار الآباء لبناتهم ونسائهم المختطفات ذروة لإنهاء حبكة المواجهة في الفيلم. وذلك دون الدخول في القالب البوليسي، أو الإحالات السياسية، بل بالتعويل أكثر فأكثر على استعراض المصائر المختلفة والدامية لطرفي النزاع، وصولاً إلى العودة إلى شجرة اللقطة الافتتاحية في الفيلم، حيث تحفر النساء على لحاء الأشجار أسماء أحبائهن الموتى والمفقودين في حرب الأخوة. فمن الصعب الإبقاء على ذاكرة شخصية في ظل هذا الدمار الذي يرصده الفيلم، لا سيما تلك اللحظات التي نقلت عمليات التعذيب التي تتعرض لها النساء، من صلب وذبح واغتصاب وتجويع وخوف. هكذا يقترب الشريط من ملامسة مؤلمة لجراح مئات النساء اللاتي مررن في ظروف مشابهة، أو قضين في جلسات التعذيب والاعتقال.
أكد الفيلم منذ استعراض لحظات البداية أن قصته متخيلة، ولا تمت لأي أحداث أو شخصيات واقعية بصلة. وهو بذلك ينفي أي مطامح وثائقية، ويقف على مسافة واحدة من جميع أفرقاء الحرب السورية، على الرغم من أنه خاض في أحداث مشابهة تضع صناعه أمام أسئلة صعبة وربما محرجة، لا سيما من الجمهور المحلي الذي تلقى الفيلم بحماسة كبيرة في أول عروضه الدمشقية!