ما إن يحلّ موسم الشتاء حتى تتحول شوارع لبنان إلى أنهار ومستنقعات وتفيض بيوت الفقراء على ساكنيها ماء وظلمة وكرباً، ويزداد الوضع سوءاً كلما اتجهنا إلى الأطراف وبعدنا عن العاصمة المركزية للبلاد، ويتكرر هذا المشهد كل عام، ومعه يظهر بطء استجابة المسؤولين بما يرافقها من وعود تسويفية، ويبقى السؤال، أين أُنفقت مليارات الإنماء والإعمار التي تُقدرها الدولية للمعلومات بـ 11 مليار دولار، خُصصت لتأهيل شبكات الكهرباء، والطرق، والمدارس، والمستشفيات.
الأحياء الشعبية وحيدة
يختصر "حي الحدادشة" في منطقة القبة حال الأحياء الشعبية في لبنان، إذ دفعت الحرب الأهلية ومعها اليأس الكثيرين من أبنائها إلى الهجرة، بينما تستمر معاناة البقية، وينتمي هذا الحي إلى البيئة العمرانية القديمة العهد، فهي منازل أثرية تملكها "عائلات ميسورة"، هجرها أصحابها لبعض المستأجرين من عامة الناس، لا يمتلك هؤلاء القدرة على ترميمها، في المقابل فإنها غير مهيأة لتأمين متطلبات العائلات الكبيرة، ويلجأ البعض تحت وطأة الحاجة إلى سقف بعض الأجزاء بألواح الصفيح من أجل الوقاية من المطر، أو توسعة بعض المرافق، الأمر الذي يُعد مخالفاً للقانون.
تجد في الحي كثيراً من البيوت شبه المتهدمة، التي سكن ما تبقى منها عائلات فقيرة، ويؤكد هؤلاء أنهم يدفعون أجرة قليلة للمالكين وموكليهم. يختصر عمر عكلة، حال السكان بالمأساوي خلال فصل الشتاء، حيث يدخل المطر إلى غرف المعيشة، ويحتاجون إلى المظلات للتنقل من داخل السكن إلى المراحيض لأنها مبنية خارج المنزل.
ولا تحصل هذه المناطق على تغذية جيدة بالكهرباء، فهي لا تتضمن مراكز إدارية أو مساكن لكبار القوم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مياه الشرب، يلفت عكلة إلى أن الماء ينقطع باستمرار، وغير صالح للشرب، ويضطر الأهالي إلى شرائه الماء من الدكاكين، ويحمّل الدولة مسؤولية النفايات، ويشير إلى أنها تتجمع منذ نحو 15 عاماً في بعض الأماكن المنهدمة والمهجورة.
كما يخشى الأهالي من انهيار شبكة المجارير بسبب ازدياد الكثافة السكانية، وكذلك قدم عهدها، فمنذ أن سكنوا في منازلهم لم تُرمم أو تُحدث، وهي عائدة إلى العصر السابق لمجيئهم إلى الحارة.
أهالي عاجزون عن الترميم
نزولاً نحو "نزلة الزحول" وقرب كنيسة السيدة، تجلس السيدة أم خالد مقابل باب الغرفة التي تأويها مع بناتها، تحيك بصنارتيها الصوف، لأنه لا يمكنها شراء ملابس جديدة، وينسحب هذا الوضع على عدم القدرة على ترميم الغرفة التي تقطنها، ويمكن وبوضوح رؤية أجزاء متساقطة من السقف، وينسحب هذا الأمر على الجدران التي تُعاني العفن لأن "الماء يدخل إلى المنزل عندما تتساقط الأمطار"، تؤكد السيدة أنها لا تعلم وبناتها إلى من يمكن أن تلجأ لإصلاح غرفتها، وتنتظر الفرج ولفتة من الدولة أو الجهات الإنسانية، لأنها "وحيدة، زوجها ومعيلها متوفى، ولديها فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة عاجزة عن معالجتها".
البيوت التراثية واهنة
وتُصنف أكثرية منازل هذه الأحياء الشعبية الطرابلسية بـ "التراثية"، التي لا يُمكن إجراء أي تعديل عليها من دون مراجعة البلدية والمديرية العامة للآثار، وتُعاني أكثريتها وهنا عن قصد أو غير قصد.
يُقر رئيس بلدية طرابلس رياض يمق، بالحالة الصعبة التي تُعانيها المناطق المصنفة تُراثية، ويلفت إلى أن البلدية لا تمتلك سلطة وصلاحية ترميم المنازل الآيلة للانهيار، وكل ما يمكنها فعله إنذار المالك، وعند تأخره عن موجبه، يمكنها الترميم بصورة محدودة لمنع وقوع حوادث على أن تُسجل ذلك ديناً على المالك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشير يمق، إلى مجموعة مخالفات وتعديات يجري القيام بها داخل الأحياء الشعبية، تُحاول البلدية بالتعاون مع القوى الأمنية قمعها، إلا أنه وفي المقابل، أحياناً يتم غضّ النظر عن بعضها، عندما تلتمس أن "هدف الفقير من وضع لوح الصفيح هو منع دخول ماء المطر إلى منزله"، موضحاً "أن البعض يُطالب بإحالته إلى التفتيش بسبب إسهامه في ترميم بعض مساكن العائلات الفقيرة".
يعتبر يمق أن وضع البنى التحتية في طرابلس أفضل من باقي المناطق، على رغم أن المشرف نفسه هو مجلس الإنماء والإعمار، ويشير إلى أن الفضل يعود في ذلك إلى فرض بلدية طرابلس آلية لمراقبة التنفيذ، إذ عينت مهندساً لمراقبة المشاريع ضمن فريق عمله.
أوتوستراد الظلمة
لا يقتصر سوء الخدمة وضعف المرافق العامة على الأحياء الشعبية، بل ينسحب على الطريق الدولي "بيروت – طرابلس"، ففي طريق العودة من بيروت نحو الشمال، وما إن يتجاوز العابر جسر المدفون باتجاه نفق شكا، صعوداً نحو طرابلس، حتى يشعر المواطن اللبناني أنه يتجه إلى مناطق خارج خريطة الإنماء والإعمار للسلطة المركزية، تعُم الظلمة على طول الأوتوستراد وصولاً إلى دوار السلام، ومع إقبال موسم المطر، يتحول الطريق إلى مصيدة للمارة والسيارات.
يتحدث طلال دنكر رئيس بلدية القلمون، عن أسباب الظلمة على الطريق الدولي، ويرجع بعضها إلى سرقة لوحات التحكم بالإنارة، ويشير إلى أن وزارة الأشغال لم تستجب للمطالبات المستمرة بتأهيله، ويتخوف من وقوع مزيد من الضحايا على الأوتوستراد لأن "حالة جسر الموت تتفاقم باستمرار بفعل عدم الصيانة".
يرفض دنكر تحميل البلديات مسؤولية تدهور البنى التحتية، فمن جهة هي مكبلة بالنصوص القانونية، التي تحصر صلاحية إدارة وتأهيل الطرق الدولية بوزارة الأشغال، ومن ناحية أخرى، فإنها لا تمتلك فائضاً في موازناتها، ولم تحصل على مداخيلها من الصندوق البلدي المستقل.
ويعلق المدير العام لوزارة الأشغال بالإنابة طانيوس بولس على الاتهامات بالتقصير، بقوله إن هناك توجهاً لتلزيم عملية تأهيل الطريق الدولية، وستشمل الإنارة والصيانة والتزفيت، ويشير إلى أن الوزارة أعدت دفتر الشروط، وأرسلته إلى إدارة المناقصات للتلزيم، وسيتم إكمال الإجراءات لإنجاز الأعمال.
وعن الهامش الزمني، يتوقع بولس أن تحصل عملية التلزيم خلال مدة شهر ومباشرة العمل، وسيتضمن المشروع ثلاث مراحل، الأولى ستتضمن تأهيل الطريق من بيروت إلى جسر المدفون، والثانية من حاجز المدفون إلى طرابلس، والثالثة من طرابلس إلى عكار والحدود السورية، وقد تم تأمين الاعتمادات لها.
ميناء الصيادين
ولا تتوقف معاناة أبناء الشمال شتاء عند حدود الأحياء الضيقة والطريق الدولية، بل تتسع إلى مدينة الميناء، وقد تعرّض ميناء الصيادين في "حئران الميناء" الواقع على البحر المتوسط إلى أضرار كبيرة بفعل العاصفة الأخيرة.
وينتمي مرفأ "حئران" إلى فئة المرافئ الطبيعية، وأسهم بعض رجال الأعمال في الميناء باستصلاحه بمبادرة فردية، ويكتسب أهمية كبيرة بالنسبة إلى أبناء هذه المدينة الواقعة على المتوسط، إذ يعتمدون في معيشتهم عليه.
يشكو أمين سر نقابة الصيادين في الشمال رافايال غيرمريان من الحالة التي بلغها مرفأ الصيادين الذي يتضمن 200 قارب، إذ يُضطر هؤلاء إلى إخراج القوارب من الماء بصورة يومية لحمايتها من التحطم، لأن "مرفأ حئران مكشوف وغير محمي، تدخله الأمواج العاتية وتتجمع فيه النفايات"، ويطالب بإنشاء مرفأ حديث يحمي القوارب و"الفلوكات" من آثار العواصف والشتاء، ويكشف عن تضرر عدد منها بسبب قوة الرياح الهوجاء.
في المحصلة، تُعاني شبكة البنى التحتية تدهوراً كبيراً في لبنان، ويأتي فصل الشتاء لفضح سوء الخدمات العامة، وتبقى معاناة الفقراء هي الأعظم، لأنهم يعيشون على هامش الدولة المركزية.