"جدّو كان يحلها بصفة يومية". "تيتا (جدتي) أطال الله عمرها كانت تشتري صحيفة الأهرام يوم الخميس، لتمضي عطلة نهاية الأسبوع في حلها". "شقيق جدي كان معروفاً بمهارته في حل الكلمات المتقاطعة، لا سيما الصعبة". "كنت أحب حل الكلمات المتقاطعة في صحيفة الأخبار، لأنها أسهل من الأهرام وأغلبها يعتمد على معلومات سينمائية وغنائية".
الفعل الماضي مهيمن. الغالبية تتحدث عن الكلمات المتقاطعة باعتبارها نفحات من الماضي. البعض يحن إليها وإلى زمنها هادئ الإيقاع وراقي السمات، والبعض الآخر لم يسمع عنها أصلاً.
تعدد المصادر
أصل الكلمات المتقاطعة متعدد. وعلى الرغم من أن مؤرخين يؤكدون أن أصول ألعاب الكلمات تعود إلى مدينة بومبي الرومانية، التي دمرها بركان هائل في عام 79 ق.م.، وعلى الرغم من وجود ألعاب وألغاز تعتمد على الكلمات في بريطانيا في القرن الـ19، إلا أن اسم الصحافي البريطاني الذي ولد في مدينة ليفربول عام 1871 آرثر وين لصيق بالشكل الحالي المعروف للكلمات المتقاطعة.
وكما يوحي اسمها، فهي كلمات تتقاطع حروفها، مرتبة بطريقة يمكن قراءتها عمودياً وأخرى أفقياً. تتخذ في الأغلب شكل مربع أو مستطيل مقسمة إلى مربعات بعضها مظلل باللون الأسود والآخر أبيض لتكتَب فيها الحروف. بدأ وين حياته في ليفربول مزارعاً للبصل، لكنه هجر كلاً منهما ليصبح صحافياً في الولايات المتحدة الأميركية. تنقل بين عدد من الصحف قبل أن يستقر في "ذا نيويورك وورلد". وفي ديسمبر (كانون أول) 1913، طلب منه رئيسه في الصحيفة ابتكار لعبة تقوم على استثارة العقل لنشرها في صفحة الترفيه. ويبدو أن وين اعتمد في مهمته على لعبة "الكلمات السحرية"، التي كان يلعبها أثناء طفولته. وتعتمد اللعبة على ترتيب مجموعة من الكلمات بشكل يمكن قراءته عمودياً وأفقياً في الوقت نفسه. وخرج الابتكار مشابهاً، ولكن بشكل أكثر تعقيداً، وعلى هيئة شبكة متكاملة من الكلمات. وكان هذا في 21 ديسمبر 1913، أي قبل 107 أعوام بالتمام والكمال.
ترفيه لا بد منه
ومن أميركا إلى أوروبا حيث ظهرت الكلمات المتقاطعة في بريطانيا وتحديداً في "مجلة بيرسون" في فبراير (شباط) 1922. وظهرت أول كلمات متقاطعة في صحيفة "ذا تايمز" البريطانية في فبراير 1930. وعلى الرغم من المقاومة الشديدة التي أبداها عدد من المطبوعات الرصينة لنشر هذا النوع من الترفيه العقلي، إلا أن تطور شكل الكلمات المتقاطعة وماهيتها بالإضافة إلى انتشارها، عوامل أدت إلى التسليم بأنها باتت ترفيهاً لا بد منه في الغالبية المطلقة من الصحف والمجلات.
واكتملت شعبية الابتكار الجديد والصرعة الحديثة مع الحرب العالمية الأولى، التي أسهمت رحاها دون أن تدري في مضاعفة شعبية الكلمات المتقاطعة في أميركا بشكل لم يطرأ في بال أو خاطر. وإذا كان الإنسان في الأوقات العصيبة، مثل تلك التي نعيشها حالياً بفعل الوباء، وجد في مواقع التواصل الاجتماعي ملجأ وملاذاً ومهرباً من واقع أليم، فقد وجد في الكلمات المتقاطعة قبل نحو قرن ملجأ وملاذاً، ولكن من أهوال الحرب العالمية الأولى.
الصفحة الأولى لـ"نيويورك وورلد" وصلت لتوازن عبقري. فالمانشيت اليومي الناقل لأخبار الحرب المفزعة صاحبته إشارة إلى صفحة الـ"ترفيه"، حيث الكلمات المتقاطعة التي كان لها مفعول السحر لدى القراء محققة توازناً نفسياً وعصبياً حال دون الوقوع في براثن القلق والخوف.
107 أعوام
لكن الشكل الذي خرجت به أول كلمات متقاطعة منشورة في صحيفة في مثل هذا اليوم قبل 107 أعوام، لم يكن مكتملاً بالشكل الذي نعرفه اليوم. فقد كانت كلمات وين المتقاطعة على شكل ماسة. أما الكلمات المطلوبة فتميزت باليسر الشديد. وكأي ابتكار آخر، التقطت صحف ومجلات ودور نشر أخرى الخيط، وبدأت تطور وتجود وتضيف لمسات وتحسينات. وفي خلال عقد واحد، كانت الغالبية العظمى من الصحف والمجلات الأميركية قد تبنت الكلمات المتقاطعة باباً ثابتاً. وظل هناك استثناء واحد عنيد، ألا وهو "نيويورك تايمز" التي رفضت هذا "الهراء"، وكتبت في افتتاحياتها عن هذا "الهدر المحمل بالخطايا" واعتبرته "صرعة عابرة سرعان ما ستزول".
انهيار المقاومة
لكن ما انهار فعلياً هو الرفض، فعقب قصف "بيرل هاربور" الشهير في 7 ديسمبر 1941، وتعرض القاعدة الأميركية الشهيرة في هاواي للقصف الجوي الياباني، ما أدى إلى مقتل ما يزيد على 2300 أميركي وتدمير عدد من السفن الحربية الأميركية، هرعت "نيويورك تايمز" إلى سلاح الكلمات المتقاطعة.
سارع محرر عدد يوم الأحد ليستر ماركيل بإرسال رسالة إلى الناشر آرثر هايز سولزبيرغر مطالباً إياه بضرورة اللجوء إلى الكلمات المتقاطعة، لا سيما أن أميركا مقبلة على أوقات بالغة الصعوبة، والقراء سيكونون في حاجة ماسة إلى ما يجذبهم بعض الوقت بعيداً من التفكير في ويلات الحرب. وأرفق ماركيل خطابه بمذكرة كتبتها رائدة تأليف الكلمات المتقاطعة مارغريت فارار التي جاء فيها، أن الطلب على ما تؤلفه هائل، لأن نسب القلق والتوتر مرتفعة للغاية، وأنها ليست مضطرة إلى محاولة تسويق ما تؤلفه، لكن وجب عليها التنبيه إلى أنه "لا يمكنك التفكير في مشكلاتك بينما تحل الكلمات المتقاطعة".
"نيويورك تايمز"
وبدأت "نيويورك تايمز" مسيرتها التي لم تتوقف في تبني الكلمات المتقاطعة ملاذاً فكرياً آمناً وملجأ من الحروب والمصاعب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من أن المنطقة العربية عامرة بالحروب والمصاعب منذ عقود طويلة، إلا أن الكلمات المتقاطعة لم تكن من خيارات الملاجئ والملاذات. فقد عرفت الكلمات المقتاطعة طريقها إلى الصحف والمجلات في وقت متأخر نسبياً، وتحديداً في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي.
ميشال سمعان، اسم يعرفه كل من مر على الكلمات المتقاطعة في صحيفة "الأهرام" المصرية اليومية على مدار نحو أربعة عقود. اعتمد على موسوعات ومراجع قبل أن يتحول هو نفسه إلى موسوعة متنقلة. كلماته المتقاطعة في "الأهرام" على مدى عقود أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الروتين اليومي لكثيرين. كوب من الشاي، وربما سيجارة، وساعات طويلة من البحث والتجربة. قلم رصاص وممحاة ليسهل محو الكلمات الخاطئة، وقت طويل وبال أطول وعشق وشغف بالمعلومات العامة والبحث والتقصي.
للمتقاعدين
لذلك، اكتسبت الكلمات المتقاطعة سمعة بأنها رياضة فكرية للمتقاعدين، إذ الوقت متاح والخبرة متوافرة والرغبة في إبقاء الذهن متقداً والوقت منشغلاً في ما يفيد. البحث العلمي أكد أن مرض الزهايمر الذي يضرب شخصاً بين كل ثلاث ثوان في العالم، ويتوقع أن يتضاعف عدد المصابين به فوق سن الـ65 عاماً كل خمس سنوات، يمكن تفاديه أو على الأقل تقليل أعراضه عن طريق المواظبة على حل الكلمات المتقاطعة.
لكن الكلمات المتقاطعة تعاني من وصمة "القِدم"، لا سيما بين الأجيال الصغيرة والشابة. باتت الكلمات المتقاطعة في القرن الـ21 الوجه الآخر لـ"جدو" و"تيتا". بل الأدهى من ذلك، هو أن البعض يعتقد أنها رياضة ذهنية لكبار السن من الرجال فحسب. وحين سئل مهاب حسن (15عاماً) عن سبب كونها رياضة ذهنية للرجال فحسب، قال بكل ثقة، "لأنها تتطلب معرفة وإلماماً بالمعلومات العامة والأحداث والحروب والحوادث والتاريخ والجغرافيا والسياسة"!
السياسة والرقابة
السياسة تلقي بظلالها على محتوى الكلمات المتقاطعة. فقد عرفت الكلمات المتقاطعة الرقابة في دول عدة، حيث لا يُسمح بذكر دول أو زعماء أو أحداث تعتبرها دولة ما تمس بالأمن القومي أو السلم العام، أو تحتمل إجاباتها إظهار ولاء لمن لا ينبغي إظهار الولاء له.
كما أن شبهة الترويج والبروباغاندا والتسويق، لم تكن بعيدة يوماً عن محتوى الكلمات المتقاطعة. الترويج لفيلم أو موديل سيارة أو منتج جديد، العمل على بناء شعبية لزعيم أو توجه سياسي أو بناء عداوة تجاه أيديولوجيا أو مدرسة فكرية وغيرها ظلت اتهامات يوجهها البعض لكلمات متقاطعة هنا أو هناك.
وهناك عديد من التحديثات والمواكبات التي تمر بها الكلمات المتقاطعة، كي تبقى على قيد الحياة الرقمية في العصر والقرن الرقميين. وبانتقال عملية قراءة الصحف والمجلات من الورق إلى الأثير العنكبوتي، انتقلت الكلمات المتقاطعة إلى المواقع الخبرية. ومنها ما أصبح تفاعلياً، أو بتطيبقات تناسب الشاشة المستخدمة سواء كانت كمبيوتراً أو محمولاً أو لوحاً رقمياً. وهناك عديد من التطبيقات المخصصة للكلمات المتقاطعة بكل لغات العالم، وهي التطبيقات التي نجحت إلى حد ما في جذب الأجيال الأصغر سناً إلى الرياضة الذهنية المرتبطة بالأكبر سناً.
ليس هذا فحسب، بل إن الجد الممسك بالصحيفة الورقية والقلم الرصاص ويساعده الحفيد الممسك بلوح رقمي باحثاً عن "أول ملك مصري دفن في مقبرة وادي الملوك" على "غوغل" يشير إلى أن التواصل بين الأجيال عبر الكلمات المتقاطعة أمر وارد.
ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، فإن أوبئة قوم عند الكلمات المتقاطعة فوائد. فقد شهد الإقبال على شراء كتيبات الكلمات المتقاطعة ومحاولات حل المتاح منها على مواقع الصحف والمجلات وغيرها على الإنترنت، انتعاشاً مفاجئاً بفضل الإغلاق الأول وقت الموجة الأولى من وباء كوفيد-19. ويبدو أن الموجة الثانية وربما ظهور السلالة الجديدة ستسهم في مزيد من الانتعاش والانتشار لهذه الرياضة الذهنية، التي ظن البعض أن الزمان قد أكل عليها وشرب، لكن يبدو أنه لم يفعل.