تختلف ثقافة أهل ليبيا باختلاف مناطقهم وأصولهم العرقية، في اللباس والطعام واللهجات والفنون، ويرتبطون بكثير من المظاهر الثقافية التي توحّد هذا الطيف الاجتماعي المتنوع. وبلا شك، فإن الفن الشعبي الغنائي المعروف باسم "المرسكاوي" يعتلي قائمة المظاهر الثقافية التي يجتمع الليبيون على عشقها، ويجمعون على دوره الأصيل في تشكيل الذاكرة الجماعية، وعلاقته الوجدانية العميقة بكثير من التفاصيل في حياتهم وتاريخهم.
فن المرسكاوي ليس طبلاً ومزماراً وعوداً فقط، بل هو لسان موسيقي يلهج بتفاصيل حياة الليبيين، ويحكي ألف حكاية وحكاية عنهم، ويخلدها في قالب غنائي لتتناقلها الأجيال، ويشْدون بها في كل مناسبة سعيدة، موالاً وأغنية و"برولاً" (مقطع غنائي صغير يلي الأغنية الرئيسة)، هكذا يصف الفنان محسن التواتي سيد الفنون الشعبية في ليبيا بلا منازع.
وافد جميل من ربوع الأندلس
تختلف الآراء حول الجذور الأولى لهذ الفن، وتتفق غالبيتها على أنه ظهر على يد "المورسكيين" الوافدين من الأندلس، بعد هجرتهم إلى شمال أفريقيا، حيث عاش جزء منهم في المدن الساحلية الليبية، وبعضهم عاش في مدينة مرزق، التي اجتمع فيها مزيج إنساني فريد من العرب والأمازيغ وحضارة وتراث أفريقيا، الوافد من الجنوب.
وعلى الرغم من اتفاق معظم آراء المهتمين بـ "المرسكاوي" والباحثين عن أصله في جذوره الأندلسية، إلا أن هناك خلافاً بينهم حول تطوره إلى شكله الحالي في مرزق، وهو ما يؤكده الفنان الليبي الراحل محمد مرشان في دراسة له.
ويوضح، "وفد هذا الفن إلى مرزق، ومنها إلى كل الجنوب بداية، مثل هون وغات وسبها، وبعدها إلى مناطق ليبيا كافة"، مؤكداً "تطوره في هذه المناطق إلى اللون الغنائي الذي يعرف حالياً، بعد وفوده مع المورسكيين إلى مرزق وما جاورها".
خلاف على موطن التطور
في المقابل، يخالف البعض ما ذهب إليه مرشان، ومنهم الكاتب طارق الحاسي، الذي يقول في دراسة له عن المرسكاوي إن "كلمة مرسكاوي هي تحريف لكلمة مرزقاوي، وهذه المعلومة لا سند تاريخياً لها، وكل ما يدعمها هو التشابه اللفظي بين مرسكاوي ومرزقاوي، وهذا غير منطقي، لأن تحريف القاف إلى كاف لا يحدث إطلاقاً في اللهجة الليبية".
ويضيف، "لقد طغت خرافة أن أصل المرسكاوي من مرزق على الفنان الراحل، فلم يلاحظ أن المرسكاوي موجود في كل مناطق ليبيا، لكن بشكل مختلف"، منتقداً قول الفنان محمد مرشان إن "الأنماط الغنائية في طرابلس وبنغازي ما هي إلا تحريف لما سماه المرسكاوي الأصلي الموجود في مرزق".
ومع ذلك، يتفق الحاسي على الأصول الأندلسية للمرسكاوي، "كنت مرافقاً لصديق لي من محبي هذا الفن، وإذا به يشغل أغاني للفنان الكبير ابراهيم الصافي، ومنها رائعته "وين ما العين تشوف ضاوي خده"، ذهلت من مدى التشابه بين لحن الأغنية وبين الموشحات الأندلسية، وأدركت أن هذا اللحن لا بد من أن يكون مرتبطاً بطريقة ما بالأندلس".
ويتابع، "فن المالوف المنتشر في شمال أفريقيا، والمقتصر في ليبيا على طرابلس، معروف بأصوله الأندلسية، وإذا توصلنا لاسم من جاء بهذا الفن من الأندلس إلى شمال أفريقيا، عندها يمكن أن نعرف الأصل الحقيقي للمرسكاوي".
ويرى أن الفن نشأ في شمال ليبيا وليس جنوبها، "من جاء بموشحات المالوف الأندلسية هم مسلمو الأندلس، المعروفين باسم الموريسكيين، الذين هاجروا بداية القرن الـ 16، وانتقل جزء كبير منهم إلى شمال أفريقيا، حاملين معهم فن المالوف، وفي ليبيا استقرت معظم العائلات الأندلسية في درنة، كما أن جزءاً منها ذهب إلى بنغازي وطرابلس".
ويشير الحاسي إلى أن "طرابلس حافظت على نغم مالوف قريب من النغم الأصلي، وطوّرته ليصبح المالوف الليبي الشهير، بينما أخذ اللحن الأندلسي إيقاعاً مختلفاً في بنغازي ودرنة والبيضاء، ليتحول إلى ما يسمى بالمرسكاوي أو الموريسكاوي نسبة إلى الموريسكيين".
ويخلص إلى أن "كلمة مرسكاوي ما هي إلا تحريف لنطق كلمة موريسكي باللهجة الليبية، وأنه فن من أصول أندلسية، انتشر في كل مناطق ليبيا، وطوّر بأشكال مختلفة بحسب المنطقة".
العناصر الموسيقية لـ "المرسكاوي"
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في سياق متصل، يشرح الفنان محسن التواتي، العناصر الموسيقية للمرسكاوي، قائلاً "تؤدى الأغاني عبر لحن محلي، على مقام متعارف عليه، وقد تميز المرسكاوي بعنصرين غير عضويين يدخلان في تركيبته، أولهما ما يشبه الموال العربي في المقدمة، وفيه يتم التهيئة للمغني للدخول في الأغنية، وثانيهما ما يطلق عليه شعبياً التبرويلة، وهي حركة سريعة عند نهاية الأغنية، تكون في الديوان الأصلي للأغنية وكلماتها، أو في ديوان مغاير، لكن لها إيقاع راقص".
في حين يرى البعض الآخر أن الموال والتبرويلة أجزاء غير أساسية في المرسكاوي، وأنهما إضافة طارئة من المطربين فقط.
ويذهب الباحث في شؤون الموسيقى الليبية محمد البيجو "إلى أن اللحن المرسكاوي قد يكون من بيت بثلاثة أشطار، وكوبليه من ستة أشطار، وأحياناً من بيت بشطرين، وكوبليه بأربعة أشطار، ويتفرع عن ذلك قوالب أخرى تفصيلية ومتنوعة".
ذاكرة الشعب الغنائية
لعب المرسكاوي دوراً مهماً في التدوين الموسيقي والغنائي للتاريخ الليبي، ليس فقط التاريخ الاجتماعي بل السياسي أيضاً، بخاصة في فترة النظام الشمولي لمعمر القذافي، وما ميّزه من أحداث دامية. وأبرز الأغاني السياسية التي اشتهرت في تلك الفترة، أغنية غناها سجناء سياسيون تقول كلماتها باللهجة الليبية، "تحت الوطا ومن فوقنا حراسة... حتى الذكر فينا مواطي راسه"، ومعنى كلماتها، أننا نعاني في سجن تحت الأرض ذو حراسة شديدة، وحتى الشجاع فينا يطأطئ رأسه ذلاً.
وأغنية كتبها معارض فارّ من النظام آنذاك إلى رومانيا، واستمد فيها بعض الكلمات من اللهجة الرومانية تقول، "شيفاتشي يادراقة... طعم البحر يحلى علي مذاقه... من ضيم وطننا".
و"شيفاتشي يا دراقة"، تعنيان صباح الخير يا فتاة، ويقول لها الشاعر إن طعم البحر الذي فرت عبره كان أحلى في فمي من مرارة الظلم في وطننا.
ويوضح الفنان والملحن الراحل محمد مرشان في هذا الشأن، أن "المرسكاوي ذاكرة موسيقية تحكي تاريخاً، فهو لا يختص باللون العاطفي، بل هناك أغان وطنية وأخرى عن السياحة، وهو فن الشعب بكل معنى الكلمة، وأنا التقيت أطفالاً في مدينة هون يقدمون أغاني مرسكاوي طبيعية رائعة بلا تكلف".
علاقة وجدانية وعصر ذهبي
من جهة ثانية، يرى الصحافي الليبي المهتم بالتراث المحلي محمد الكواش، أن "هناك علاقة وجدانية عميقة بين الليبيين والمرسكاوي، فهو أكثر فن شعبي يجمعون على حبه، ويطربون له في كل مناسبة وبحضور كبير".
ويعتبر أن العصر الذهبي لهذا الفن كان في أول عقد من الألفية الجديدة، "لبروز شخصيتين طوّرتا المرسكاوي بشكل كبير جداً، وهما احميدة القصيبات المعروف بـ "بونقطة"، وإبراهيم الصافي، فهناك من يعتبرهما أفضل من تغنى بفن المرسكاوي".
ويكشف الكواش الذي يعدُ حالياً برنامجاً تلفزيونياً عن هذا الفن، أن "التراث الليبي الأصيل تعرض لسرقات كثيرة، بسبب عدم وجود من يحفظ حقوق هذا الفن، ولعل أشهر هذه السرقات لحن أغنية "بعت المحبة" للفنان محمد مرشان، إذ سرق اللحن من ملحن مصري معروف، وأغنية "شالوها" للشاعر محمد بالقاسم، وغناء الفنان فوزي المزداوي عام 1995، وبعد فترة من الزمن تغنى بها فنان كويتي، من دون إذن صاحبها الأصلي ونسبها لنفسه، إضافة إلى أغنية "نين نموت" للفنان الراحل احميدة بونقطة، التي غنتها فنانة تونسية، ونسبتها لشاعر آخر".