باتريس شيرو بالنسبة إلى الثقافة السينمائية العربية هو الفنان الذي لعب دور القائد الفرنسي في فيلم يوسف شاهين "وداعاً بونابرت"، لكنه في الحقيقة صاحب تاريخ فني على الساحة الفرنسية والعالمية يتجاوز كثيراً قيامه بذلك الدور، فقد كان ممثلاً ومخرجاً سينمائياً ومسرحياً وأوبرالياً وكاتباً وشاعراً، ومن هنا كان الحزن الفرنسي كبيراً عليه حين رحل عن عالمنا قبل سنوات قليلة.
من هنا كان النظر إلى التقديم التلفزيوني بمناسبة الأعياد هذا العام لآخر عمل حققه لفن الأوبرا حدثاً فنياً كبيراً، حيث إن هذا العمل، أوبرا "إلكترا"، الذي بعد أن قدم عام 2013 في مهرجان "أكس أن بروفانس"، عاد وقدم ودائماً كما صاغه شيرو وهو على فراش المرض في قاعة متروبوليتان أوبرا النيويوركية عام 2016، ما اعتبر حينها تتويجاً لنشاط المبدع الفرنسي الفني. وربما لا يبدو النقد الفرنسي اليوم مغالياً حين يؤكد أن إخراج شيرو هذه الأوبرا يعد الأفضل في تاريخها الذي يمتد طوال أكثر من قرن تلا تقديمها للمرة الأولى في درسدن الألمانية عام 1909.
حكاية إغريقية سوداوية
مهما يكن صحيحاً أن حكاية "إلكترا" حكاية إغريقية ربما تكون الأشهر بين الحكايات التي نقلت إلى المسرح اليوناني القديم، حيث تبارى على استخدامها يوريبيدس وإسخيلوس وسوفوكليس بين آخرين، مستندين في ذلك إلى وقائع مذكورة في كتابات هوميروس، كما في وقائع الحروب الطروادية، لكن الكاتب النمساوي هوغو فون هوفمانستال عرف كيف يحدثنها عند بدايات القرن العشرين، وبلا ريب على ضوء استخدام المحلل النفسي السويسري كارل غوستاف يانغ لها كمعادل أنثوي لعقدة أوديب الفرويدية، محولاً إياها إلى مسرحية تعبيرية ستكون بعد حين بداية التعاون بينه وبين الموسيقي ريتشارد شتراوس، والذي سيسفر عن تشاركهما خلق ست أوبرات متتالية.
من هنا، أضاف شتراوس يومها اسمه إلى عديد من المبدعين العالميين الذين اشتغلوا على "إلكترا" مسرحيات، وأوبرات، ولوحات، وروايات، من المعروف أنهم من موتسارت إلى سارتر وأونيل باتوا أكثر من أن يحصوا. ومع ذلك لا بد من الإقرار بأن الأوبرا التي أبدعها شتراوس وهوفمانستال تبقى العمل الأقوى والأقرب إلى روح الحكاية الأصلية على الرغم من حداثتها النسبية. ولا شك أن الإخراج شديد المعاصرة الذي قام به الراحل شيرو، ويمكن مشاهدته مساء اليوم على شاشة "ميتزو" الموسيقية الفرنسية، سيؤكد هذا.
الأوركسترا الأضخم لعمل "فرويدي"
على الرغم من أن "إلكترا" تعرف عادة بكونها أوبرا من فصل واحد، فإنها تعد، إلى جانب أوبرا "صالومي" لشتراوس نفسه، عن نص لأوسكار وايلد هذه المرة، واحدة من أطول الأوبرات التي لحنها (ما لا يقل عن مئة دقيقة من العرض المتواصل)، ناهيك بأنه استخدم فيها أوركسترا تضم ما لا يقل عن مئة وعشرة عازفين، ما يضعنا أمام أكبر أوركسترا استخدمت في تاريخ العروض الأوبرالية على الإطلاق. والحقيقة أن شتراوس كان في حاجة إلى تلك الضخامة الأوركسترالية، من ناحية كي يتمكن من نقل عظمة الموضوع وأحاسيس الشخصيات الرئيسة التي تقدمه على الخشبة، ومن ناحية ثانية للتعويض عن وحدة المكان والحدث بانتقالات موسيقية لم تخلُ من حداثة أوركسترالية وتوزيعية عرف الملحن، ببراعة فائقة، كيف يجعلها تعبر عن حداثة الموضوع الذي يشتغل عليه، ولا سيما عن تفسيراته التحليلية النفسية كما تبدو لدى يانغ، وكذلك عن نوع من "إعادة إحياء" لأجواء موسيقية إغريقية مفترضة.
فما الموضوع هنا؟ وكيف اشتغل الكاتب والملحن على تحديثه؟ علماً بأن فون هوفمانستال كان قد قدم النص كمسرحية قبل أن يخوض شتراوس في موسقتها إثر التقائهما ونشوء الصداقة والتعاون بينهما؟
تلك هي الحكاية
معروفة طبعاً حكاية "إلكترا"، فهي واحدة من أولاد ملك ميسينا، أغا ممنون الذي كان قبل خوضه الحروب الطروادية قد ضحى بابنته إيفيجينيا، ما جعل زوجته كليمنسترا تحقد عليه، وبالتالي تدبر اغتياله انتقاماً منه ما إن يعود من تلك الحروب دون أن نعرف ما إذا كانت قتلته بيدها أو بيد عشيقها إيغيستي، ولكن في الحالين ها هي "إلكترا" تحقد بدورها على أمها وعشيق هذه الأخيرة وتنتظر عودة أخيها أورستي كي يتولى الانتقام لقتل أبيه.
وكانت "إلكترا" قد أرسلت أورستي الفتي ليختبئ بعيداً عن ميسينا خوفاً عليه من أمه في حين بقيت هي في المملكة كي تُبقي ذكرى أبيها حية بزيارتها قبره بانتظام. وبالفعل مع مرور الوقت وبلوغ أوروستي سن الرشد تأمره الآلهة هناك، حيث كان لاجئاً بالعودة إلى ميسينا ولقاء أخته للانتقام من أبيه.
ويعود الشاب تبعاً للحكاية ما يراكم فواجع فوق فواجع ويوصل الحكاية بأسرها إلى نهايات غير سعيدة تجعل أسطورة "إلكترا" واحدة من أكثر الأساطير سوداوية في تاريخ الفواجع الإغريقية. بالتالي، باتت على يد شتراوس وهوفمانستال واحدة من الأوبرات الأكثر تماشياً مع المناخ السوداوي الذي كان يخيم على الحياة الاجتماعية والفنية بالتالي في فيينا، عند بدايات القرن العشرين. ومن هنا اعتبرت عملاً يعكس روح العصر الذي قدمت فيه بأكثر حتى مما يعكس روح الزمن الإغريقي؛ وربما لا نكون في حاجة هنا إلى القول إن الريبورتوار الأوبرالي في طول القرن العشرين وعرضه حرص على أن يقدم أوبرا "إلكترا" أكثر من تقديمه أي عمل آخر، ولا سيما في لحظات التأزم، ناهيك بأن المبدعَين الآخرَين، من سينمائيين، اليوناني مايكل كاكويانيس الذي جعل بطولة فيلمه للرائعة إيرين باباس، والمجري ميكلوس يانشو الذي عنون فيلمه المغرق في حداثته "حبيبتي إلكترا"، ومسرحيَّين هما كيوجين أونيل في "الحداد يليق بإلكترا"، وجان بول سارتر في "الذباب"، لم يفتهم حين اقتبسوا الحكاية في أعمال لهم، أن ينهلوا من هذه الأوبرا الحديثة بقدر ما نهلوا من الحكاية الإغريقية القديمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا بالتالي ما أسبغ على عمل شتراوس – هوفمانستال المشترك تلك الخصوصية المدهشة، وصولاً إلى اشتغال الفرنسي باتريس شيرو على العمل نفسه من منطلق حداثته، بل ربما أكثر من ذلك، من منطلق أنه إذ راح يضع اللمسات الأخيرة على تقديمه الخاص للعمل وهو مريض، بل على فراش الموت، معتمداً في بعض الأيام على مساعده فنسان هوغ، الذي سيكون هو من يقدم الأوبرا على خشبة المتروبوليتان النيويوركية ليوصل تعليماته، إذ بات عاجزاً عن مبارحة سريره، ما جعل من تلك الأوبرا وصيته الفنية، وربما السياسية الأخيرة.
بين شتراوس وشيرو
وباتريس شيرو (1944 – 2013) الذي رحل عن عالمنا باكراً وهو بعد بالكاد تجاوز الستين من عمره، كان من أقطاب حركة الحداثة في الفنون المشهدية الفرنسية، ولا سيما من خلال إخراجه مواسم أوبرالية متكاملة. كما كان من البارزين في فن التمثيل، وهو حين زار مصر، حيث عاش فترة ليقوم بالدور الرئيس في فيلم يوسف شاهين، بدا من الفضول والاهتمام بالحركة الفنية المصرية إلى درجة أنه كان يسأل عن كل صغيرة وكبيرة، وارتبط بصداقات مع عدد من الفنانين المصريين، وعمل على دعوة بعضهم إلى زيارة فرنسا لاحقاً، محاولاً أن يدبر لهم عملاً في مناخاتها الفنية. وقد رحل مباشرة بعد أن وضع اللمسات الأخيرة على تلك الأوبرا التي يعتبر نقلها اليوم على شاشة التلفزة نوعاً من التكريم له.
أما ريتشارد شتراوس (1864 – 1949)، والذي لا يمت بأي قرابة إلى الموسيقيين النمساويين من آل شتراوس، فهو موسيقي ألماني يعد من آخر الكبار في عالم الموسيقى الأوبرالية الكلاسيكية على الرغم من كونه قد أمن الانتقال، أوركسترالياً على الأقل، من الكلاسيكية إلى الحداثة، ويعد المكمل الطبيعي لإنجازات ريتشارد فاغنر وفرانز ليست الموسيقية إلى جانب غوستاف ماهلر. وشتراوس اشتهر بتلحين أغانٍ مستقاة من نصوص كلاسيكية ("دون كيشوت" بين أعمال أخرى) قبل أن يلحن أوبراه الأولى "صالومي" ليتبعها بست أوبرات عن نصوص لهوفمانستال، كما أسلفنا، منها "إلكترا"، ثم "فارس الوردة"، وغيرهما.