ربما كان كافياً للتعريف بجيوزيبي فورتونينو فرانشيسكو فيردي أن يقال، إنه مؤلف أوبرا "عايدة". وعلى الرغم من أنه أنجز بين عامي 1836 و1893 ثمانية وثلاثين عملاً أوبرالياً، تبقى هذه الأوبرا، التي جاء عرضها الافتتاحي في مثل هذا اليوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 1871، أهم تلك الأعمال على الإطلاق.
ألف فيردي الموسيقى لهذه الأوبرا (كتب أشعارها– الليبريتو– بالإيطالية أنطونيو غيسلانزوني) بتكليف من خديوي مصر إسماعيل باشا الذي تمنى عليه، عندما التقيا في باريس، أن تكون جاهزة للعرض في يناير (كانون الثاني) 1871. ووفقاً للروايات، لم يبد فيردي حماسه في الاستجابة للطلب خصوصاً، وأنه كان منشغلاً بعمل آخر. فطلب مبلغاً كان يظن أن ضخامته ستصرف عنه الخديوي إلى شخص آخر. لكنه فوجئ بالموافقة على المبلغ الخرافي الذي حدده، وهو 150 ألف فرنك (نحو 650 ألف دولار الآن).
ونال فيردي مراده التعجيزي هذا في ما يبدو لأن إسماعيل باشا كان مغرماً بأعماله ويريد لموسيقى هذا المؤلف الإيطالي الموهوب أن تتوج احتفالاً مزدوجاً ومذكوراً بافتتاح قناة السويس، وأيضاً بافتتاح دار الأوبرا الخديوية. فقد كانت القناة إنجازاً هندسياً وأيضاً اقتصادياً نفخ الروح في الملاحة والتجارة العالميتين. أما دار الأوبرا، فقد كانت بالنسبة للخديوي الجوهرة على تاج القاهرة الحديثة التي أراد لها أن تماثل العواصم الأوروبية، وتحديداً باريس.
على أن "عايدة" لم تعرض في موعدها المحدد بسبب تأخر وصول ملابس وديكور أوبرا عايدة من العاصمة الفرنسية. فاضطر المنظمون للجوء إلى عمل أوبرالي آخر لفيردي نفسه وهو "ريغوليتو"، وهي أوبرا كان قد ألفها قبل 18 سنة من موعد عرضها في القاهرة. ويذكر أيضاً أن ذلك المؤلف الشهير لم يحضر عرض "عايدة" الافتتاحي في القاهرة في 1871 بعد تأجيل دام سنتين عن موعد افتتاحها الأصلي بسبب الحرب الفرنسية– البروسية. وعلى الرغم من أن غياب فيردي انتقص نوعاً ما من أهمية المناسبة، فقد كان في صدارة الحضور الخديوي نفسه، وفي ضيافته إمبراطور النمسا فرانتس جوزيف وبعض كبار الشخصيات العالمية. وفي فبراير (شباط) من العام التالي عرضت في أوروبا لأول مرة على مسرح لاسكالا في إيطاليا، فأصابت نجاحاً مدوياً. والمؤكد هو أنها تبقى إلى اليوم أحد أكثر الأعمال الأوبرالية شعبية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية.
قصة حقيقية
ربما كان العديد من الناس لا يعلمون أن قصة هذه الأوبرا مستوحاة من أحداث حقيقية سُجلت خطوطها العريضة على مجموعة من أوراق البردي عثر عليها العالم الفرنسي المتخصص في الآثار المصرية، أوغوست مارييت (1821– 1880). فوضع النقاط على الحروف وكتب القصة بناء على ما وجده في المدونات المصرية القديمة. كما أنه تولى تصميم الديكورات والأزياء للعرض الافتتاحي في القاهرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لعناية وزارة الثقافة المصرية
ظلت مصر– عدا فترة 22 سنة من الغياب– تعرض أوبرا عايدة بشكل دوري في معبد حتشبسوت الذي يشكل أفضل مكان على الإطلاق لعمل كهذا. لكن السؤال المحير في هذا الصدد هو: لماذا تتعاقد وزارة الثقافة المصرية بعشرات- إن لم يكن مئات- ملايين الدولارات مع فنانين أجانب من مغنين وموسيقيين ومهندسي صوت وإضاءة ومصممي ديكور والأزياء... الخ. بينما مصر نفسها تزخر بكل هذه المواهب،
ما الذي يمنع إنتاج عايدة عربية؟ فقصة عايدة المشوقة ليست مستوردة من الخارج، وإنما مدونة على ورق البردي منذ آلاف السنين، ولا تقل في مصريتها عن الأهرامات. ومصر اليوم (وأضف إليها لبنان وسورية على الأقل) لا تشكو نقص الأصوات الأوبرالية التي تصدح على خشبات مسارح الدنيا (وليس في بلادها)، أو الموسيقيين من طائفةconcert grade وهم أعلى المتمكنين من آلاتهم الموسيقية، أو مهندسي الصوت والإضاءة ومصممي الديكور والأزياء المحترفين، أو المترجمين والشعراء المتمكنين الذين يستطيعون إعادة كتابة "الليبراتو" باللغة العربية (ولفيروز والرحبانية تجربة ناجحة في تحويل سيمفونية موزارت الأربعين إلى أغنية عربية محبوبة). بل إن بوسع مصر أن تتخلى بالكامل عن موسيقى فيردي نفسها، وأن تبدأ إنتاج "عايدة" جديدة مصرية من الألف إلى الياء.
وقد يقال إن إنتاج عايدة (بأيد أجنبية كما هي العادة) في معبد حتشبسوت يجتذب السياح الأجانب. وهذا صحيح إذ عدلنا الكلام ليصبح "بعض السياح الأجانب من عشاق الأوبرا وهم قلة حتى في بلادهم". وبينما لا يمكن نكران المردود المالي لحدث كهذا وكونه ترساً صغيراً، ولكنه مهم في ماكينة السياحة المصرية، فهو ليس من الضخامة بحيث يؤثر على إجمالي الناتج المحلي المصري ككل. على أنك إذا قارنت المردود الثقافي لـ"عايدة فيردي المعتادة" و"عايدة مصرية مئة في المئة" وجدت أن فارق الربح الثقافي العائد إلى الشعب المصري– وهو رب الدار- يرقى إلى مرتبة كنز قومي.
ومع ذلك فمن جمال عايدة عربية أنها لا تتضارب مع عايدة فيردي. فلتمض مصر قدماً في إنتاج سنوي لهذه الأوبرا، ولتجتذب من السياح الأجانب من تجتذب، وفي الوقت نفسه فلتنتج عايدة عربية تعرف الوجدان الشعبي المصري نفسه على ضرب راقٍ من الفنون ظل ينأي بنفسه عن الجماهير العربية فقط لأن لسانه غير عربي.
وفي حال نجاح عايدة العربية في الخروج إلى الشارع، فليس ثمة ما يمنع خروج غيرها سواء من التراث العربي أو الأجنبي، ولا حصر للموارد الممكنة: "شهرزاد" العمل السيمفوني الذي ألفه الروسي ريمسكي- كورساكوف ليؤكد به شرقية التراث الروسي، وبحور من ألف ليلة وليلة، و"كونشيرتو دي آرانخويث" الإسباني المنكّه بروائح الأندلس، والقصص والأساطير المنسوجة حول أبو زيد الهلالي وزرقاء اليمامة ومجنون ليلى... وهلم جرا. لا حد للمعين المتوفر لمصر. ومن يدري، فقد تنجح في إمساك العصا من طرفيها، وقد تنجح أيضاً في ما عجز عنه الغرب، وهو كسر إطار الصفوية الذي يلف الأوبرا، بحيث تصبح فناً شعبياً وجزءاً عضوياً من نسيج الثقافة المصرية، والعربية ككل.
عايدة فيردي
تقوم أوبرا عايدة على التصادم بين الحب والولاء للوطن وتتخذ من مصر الفرعونية مسرحاً لأحداثها. وهي تتألف من أربعة فصول كما يلي:
الفصل الأول
تقع عايدة، وهي ابنة ملك الحبشة أموناسرو، في الأسر وتصبح جارية للقصر الملكي في مصر من دون أن يعلم أحد أنها أميرة. يقع القائد العسكري المصري راداميس في غرامها وتبادله هي الحب. تتعقد الأمور أكثر لأن امنيريس، ابنة فرعون، تهيم بحب راداميس لكنها لا تجد تجاوباً منه. يتضح لها أن امرأة أخرى استحوذت على قلبه وتشك في أنها عايدة.
ملك الحبشة، أموناسرو، يتقدم على رأس جيشه نحو طيبة ابتغاء تحرير ابنته من براثن الرق. يكلف فرعون راداميس بقيادة جيشه للتصدي للغزاة. وهكذا يجد هذا الأخير خياره الصعب بين ولائه لوطنه ومليكه من جهة وحبه لعايدة من الأخرى، مثلما تجد هي خيارها الصعب بين حبها له وولائها لوطنها وأبيها.
شاهد هنا المنظر الأول من الفصل الأول على مسرح جيوزيبي فيردي، إيطاليا، إخراج فرانكو زيفريلي (2001):
الفصل الثاني
على الرغم من انتصار راداميس في معركته الأولى على الجيش الحبشي، تكذب امنيريس، ابنة فرعون الماكرة، على عايدة فتخبرها أن راداميس قتل في تلك المعركة. الحزن الجارف يجبر عايدة على الاعتراف لامنيريس بحبها لراداميس. تستشيط هذه الأخيرة غضباً وتتوعد بالانتقام القاتل.
يعود راداميس مظفراً وبين أسراه أموناسرو نفسه. لا يعلم أحد سبب احتضان عايدة له. فرعون يعلن أنه سيحقق أي رغبة يبديها راداميس الذي يرجو فرعون الامتناع عن قتل الأسرى. يستجيب هذا الأخير ويضيف إلى إعلانه أن يخلفه قائده العسكري هذا في العرش بعد أن يتزوج ابنته امنيريس. يظل أموناسرو وعايدة في الأسر حتى لا يثأر الجيش الحبشي للهزيمة.
شاهد منظر الانتصار في الفصل الثاني هنا:
الفصل الثالث
عايدة تلتقي راداميس أمام المعبد الذي سيشهد زواجه من امنيريس الليلة التالية ويعلن حبه لها مجدداً. تقنعه عايدة بالهرب معها إلى الصحراء. يوافق هو ويقول، إنه يعرف طريقاً سالمة إلى الحبشة. يظهر أمامها أموناسرو الذي كان مختبئاً وراء صخرة. في هذه اللحظة يراهم كبير الكهنة الذي خرج لتوه مع امينريس من المعبد. يستدعي الحرس الفرعوني الذي يقبض على راداميس بتهمة لقائه بالعدو ونيته الهروب مع عايدة وأبيها.
شاهد هذا الفصل على خشبة أوبرا أوبفيستشبيل النمساوية (2004) هنا:
الفصل الرابع
يحكم كبير الكهنة على راداميس بأن يدفن حياً ولا تجدي توسلات امنيريس بأن يعفو عنه. يؤخذ المحكوم عليه إلى قبره وهو غرفة تحت أرض المعبد. في قبره هذا يعلن مجدداً حبه لعايدة، ويتمنى أن تكون قد بلغت بلادها سالمة. لكنه يسمع صوتها ثم يراها، إذ إنها كانت قد خبأت نفسها في الغرفة قبل ثلاثة أيام. تخبره أنها تفضل الموت معه على حريتها من دونه. يلقيان بتحايا الوداع إلى العالم فوقهما.
شاهد هنا المنظر الختامي مع لوتشيانو بافاروتي في دور راداميس وماريا تشيارا في دور عايدة:
فيردي
ولد هذا المؤلف الإيطالي في 9 أو 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1813 في رونكولي لأسرة من صغار ملاك الأراضي وكان أبوه صاحب نزل صغير. بدأ مشواره الموسيقي في سن السابعة مع آلة الأورغن في كنيسة محلية. ومع بلوغه السادسة عشرة كان قد كتب عدداً من المؤلفات الكورالية.
تزوج في الثالثة والعشرين من مارغريتا باريزي، ابنة معلمه وراعيه، وأنجبت له طفلين مات كلاهما في صغره. وماتت مارغريتا نفسها وهي في منتصف الأربعينيات، وهو ما أدى إلى زواجه الثاني من مغنية السوبرانو جيوزيبينا ستريبوني في 1859.
عام 1839 شهد عرض أول أعماله الأوبرالية "أوبيرتو". ومنذ ذلك الحين إلى 1893 مضى ليؤلف 36 عملاً آخر أهمها "ماكبث" (1847)، و"لا ترافياتا" (1853)، و"عايدة" (1871)، و"دون كارلوس" 1872، و"عطيل" (1887).
ويعتبر فيردي، الذي عاش في الحقبة الكلاسيكية- الرومانسية، أحد أبرز مؤلفي الأوبرا الإيطاليين في القرن التاسع عشر. ومع أنه أنتج أعمالاً أخرى، فقد كان تركيزه منصباً على الأوبرا بشكل خاص (على عكس كثير من الرومانسيين مثل برامز الذي لم يمسها البتة). وتميزت أعماله الأوبرالية بالميلودرامية والتركيز على البطولة والنفس المعذبة والتضحية بالذات.
وإذا أضفت إلى هذا أن فيردي كان أيضاً سياسياً وصار عضواً برلمانياً ثم سيناتوراً، فهمت كيف أنه ضرب بأعماله الموسيقية على وتر حساس في الوجدان الإيطالي الذي كان يرزح تحت نير الحروب والغزوات من هنا وهناك. ولهذا قيل إن قرابة 30 ألف شخص ساروا في جنازته لدى وفاته في 27 يناير (كانون الثاني) 1901.
شاهد "عايدة" مع ترجمتها العربية هنا:
وشاهد هنا جزءاً منها كما عرضت في معبد حتشبسوت المصري (1994)