تحاول أمانة بغداد بالاشتراك مع منظمات دولية ومحلية إعادة الروح إلى مركزها الحضاري والتاريخي، الذي يمتد على مسافة خمسة كيلومترات من منطقة باب المعظم إلى ساحة التحرير وسط العاصمة، بجانب الساحل الشمالي لنهر دجلة.
ويضم هذا المركز سلسلة من المواقع التراثية والأثرية تعود إلى حقب تاريخية مختلفة، بما في ذلك العصر العباسي (المدرسة المستنصرية والقصر العباسي)، ومبان أخرى تعود إلى فترة الحكم العثماني والإنجليزي في العراق، مثل القشلة ومحيطها والمتحف البغدادي الشعبي وجامع الحيدر خانه والأوزبكية ومقر وزارة الدفاع القديم، الذي كان بين عامي 1958 و1963 المقر الرئيس لإدارة البلاد.
وتضاف إلى ما سبق، عشرات من المواقع والبنايات التي أنشئت خلال عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، فضلاً عن عدد من أسواق بغداد القديمة.
وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لهذه المناطق، إلا أنها لاقت إهمالاً، بل تخريباً كبيراً، خصوصاً بعد عام 2003.
حملة بعد أسابيع
أعلن أمين بغداد علاء معن أن "الأسابيع المقبلة ستشهد الشروع بحملة تطوير كبرى لمركز العاصمة بالتعاون مع أصحاب المحال التجارية والتراثية والثقافية".
وأضاف أن "الأمانة قررت توحيد فعاليات كل سوق تجارية وشارع تراثي في المنطقة، وعدم منح أي موافقة أو إجازة مخالفة لفعالياتها، مع العمل على تنظيمها والحفاظ على هويتها وإجراء عمليات الترميم والصيانة والتأهيل وإزالة تجاوزاتها على الأرصفة".
وأضاف معن أن شارع المتنبي سيصبح سوقاً لبيع الكتب ودور النشر، وسوق السراي سيخصص للقرطاسية، وسوق الصاغة للحلي والذهب والصفارين للمعروضات والتحف النحاسية والخفافين لبيع العبيّ والشورجة للعطور والتوابل والغزل لبيع وعرض الحيوانات.
وبيّن أن خطة التطوير ستنطلق مطلع العام المقبل من المتنبي عبر توحيد الواجهات واللوحات الإعلانية للمحال وتسقيف الشارع، مع تجهيز الباعة بعربات لعرض الكتب بتصاميم موحدة ومميزة بدعم من عدد من المتبرعين، بالإضافة إلى التنسيق مع الجهات الأمنية لعدم السماح بدخول العجلات والدراجات، باستثناء عجلات الطوارئ.
اختفاء المهن وأصحابها
ويبدو أن أمنيات أمانة بغداد في إعادة الروح إلى أسواق بغداد القديمة تصدم بواقع اختفاء أغلب المهن منها.
بالقرب من المدرسة المستنصرية، التي يعود تاريخ بنائها إلى أكثر 700 عام، يقع سوق الخفافين الذي كان يضم عدداً من حرفيي مهنة "الروافة" (خياطة الملابس) وبيع العباءة الرجالية، إلا أن تطور الحياة وانخفاض أسعار الملابس المستوردة من مناشئ مختلفة، أدى إلى اختفاء هذه المهنة، ولم يبق في السوق إلا عدد قليل من أصحاب المحال المتخصصة.
وفي مكان لا يبعد أكثر من 200 متر، يقع سوق الصفارين المتخصص بصناعة التحف التراثية والأواني النحاسية، الذي كان يعج بعشرات المحلات. لكن أصوات المطارق التي يستخدمها النحاسون اختفت بشكل شبه كامل، بعدما غزت البضاعة المستوردة السوق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويفسر أحد أصحاب المحلات في السوق، المعروف باسم أبو سعد، هذا التراجع بأن "المواد التراثية لا تستهوي العراقيين، إضافة إلى الكلفة العالية لمادة النحاس، فضلاً عن البضاعة المستوردة الرخيصة ذات المنشأ الصيني التي غزت الأسواق".
ويتحدث عن هجرة أغلب الصناع المهرة للسوق، منتقلين إلى مهن أكثر ربحاً، ومن بقي يبيع في الغالب بضائع مستوردة.
في المقابل، حافظت أسواق أخرى على خصوصيتها الثقافية، مثل شارع المتنبي الخاص ببيع الكتب وطباعتها، الذي يعد من أقدم أسواق بيع الكتب في بغداد.
وعلى الرغم من إعادة ترميم هذه السوق أكثر من مرة، إلا أنها لا تزال تحافظ على شكلها التراثي الذي أنشئت من أجله.
بحاجة إلى وقت ومال
تعد الحكومة العراقية على نحو متكرر بإعادة إحياء أسواق ومعالم بغداد القديمة، إلا أنها غالباً لا تنفذ ذلك، بحجج متعددة لعل أبرزها عدم توفر الأموال.
ووفق متخصصين في التراث، فإن هذا المشروع بحاجة إلى وقت ومخصصات مالية كبيرة لإنجازه خلال العام المقبل، بالتالي ربما سيكون صعباً تنفيذه بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد.
ويقول مدير دائرة التراث في وزارة الثقافة والسياحة إياد كاظم، إن الدائرة تستطيع إنجاز المشروع عن طريق المهندسين العراقيين، لكنها تحتاج إلى بعض التقنيات الحديثة لتقوية الأسس ومعالجة المياه الجوفية.
ويضيف كاظم أن "المشروع يحتوي على كثير من المعالم والأسواق التراثية وترميمها يحتاج إلى وقت"، موضحاً أن العملية ستأخذ بالاعتبار شكل المبنى الأساسي.
ويبيّن أن دقة العمل تحتاج إلى مواد معينة تصنّع لتكون منسجمة مع الشكل التراثي، وهذا ما سيزيد الكلفة، لافتاً إلى أن "الدائرة رفعت دعاوى قضائية على بعض المحلات في شارع الرشيد لتغييرها واجهات مبانيها التراثية".
من جانبه، يستبعد الباحث في الفلكور البغدادي عادل العرداوي تنفيذ المشروع لحاجته لمخصصات مالية كبيرة.
ويقول إن "خطة أمانة بغداد جيدة، لكن تنفيذها غير ممكن إذا لم يتحسن الوضع الاقتصادي في البلاد".