يظل 2020 العام الأكثر اختلافاً في تاريخنا المعاصر، فجائحة كورونا استطاعت تغيير أنماط حياتنا بشكل جذري، بما في ذلك الاحتفالات الدينية التي تشكل جزءاً من هوية وتقاليد المجتمعات العربية. ومع عودة صعود منحنى تفشي الفيروس في نسخته المتحورة في العالم، أصدرت الحكومات تعليماتها بشأن اقتصار الاحتفال بعيد الميلاد والعام الميلادي الجديد على المنزل والابتعاد عن أماكن التجمعات.
في مصر أصدرت بعض الكنائس بيانات بشأن توقف استقبال المصلين حتى منتصف يناير (كانون الثاني) المقبل، ما يعني اقتصار الطقوس الدينية والممارسات الروحية على رجال الدين مع إذاعة الصلوات عبر قنوات التلفزيون، والبث المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي. وأعلنت الكنيسة الإنجيلية تعليق كافة الاجتماعات والاحتفالات والنهضات والأنشطة فى جميع الكنائس التابعة للطائفة الإنجيلية، بدايةً من الاثنين 21 ديسمبر (كانون الأول) حتى الجمعة 15 يناير.
احتفالات الميلاد
تتسم احتفالات عيد الميلاد في الشرق، وتحديداً مصر، بمزيج من الطقوس الروحية والمجتمعية، التي تختلط فيها الزينة والأنوار بالصلوات والألحان الكنسية، بالإضافة إلى الأنشطة الخيرية. فالكنيسة الإنجيلية تستضيف "النهضات الروحية" وتكثف الأنشطة الخيرية خلال شهر ديسمبر تمهيداً للاحتفال بالعيد، وفي الكنيسة الكاثوليكية ينقسم الاحتفال إلى جانب روحي، من خلال النهضات الروحية خلال فترة الصيام، وتشمل اجتماعات يومية للصلاة وعظات، إضافة إلى الصلوات "اللوتارجية" اليومية المعتادة، وخلال الصيام وعيد الميلاد توجد صلوات خاصة، وتقيم الكنائس حفلات (كريسماس كارول)، وهي ترتيلات روحية، إضافة إلى تنظيم الأنشطة الخيرية لتوزيع الملابس والطعام على المحتاجين، وزيارة المسنين والمرضى وتقديم الهدايا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الكنيسة الأرثوذكسية تبدأ الاحتفالات الروحية مع بدء موسم الصيام الذي يسبق العيد بـ43 يوماً، وفي الأصل فإن صوم الميلاد 40 يوماً، لكن الكنيسة القبطية تضيف 3 أيام للأربعين يوماً، تذكاراً لمعجزة نقل جبل المقطم، إذ "تتذكر الكنيسة إيمانها وما مرت به في تاريخها من تجارب، إضافة إلى احتفال أمجاد بولادة شريعة العهد الجديد، وهي ميلاد السيد المسيح" .
وبحسب الأب روفائيل سامي، راعي كنيسة الشهيد مار جرجس في الفيوم (جنوب غربي القاهرة)، خلال شهر ديسمبر تحتفل الكنيسة بتذكارات أربعة، إذ يمثل كل يوم أحد احتفالاً مختلفاً، فالأحد الأول تتذكر فيه بشارة الملاك للأب زكريا بميلاد يوحنا المعمدان، الذي يسمى سفير قضية الخلاص، وفي الثاني تحتفل بتذكار الملاك وبشارته للعذراء مريم كخادمة للخلاص وأم للمخلص، وفي الثالث زيارة العذراء مريم لأليصابات والدة يوحنا المعمدان، فيما تحتفل في الأحد الرابع بميلاد يوحنا المعمدان، ثم تختم الكنيسة بالاحتفال بميلاد السيد المسيح.
الإجراءات الاحترازية
لكن لا يبدو أن الأمور تسير كعادتها في ذلك العام الاستثنائي من حياتنا. وفي تصريح خاص قال الأنبا، هاني باخوم، النائب البطريركي المتحدث باسم الكنيسة الكاثوليكية المصرية، إن الكنيسة ملتزمة كافة الإجراءات الاحترازية المتعلقة بالصلوات وحضور المصلين، موضحاً أنه وفقاً للتعليمات الصادرة فإنه يتم السماح بشغل 40 في المئة فقط من مساحة الكنيسة مع الاحتفاظ بمساحات التباعد الاجتماعي.
وأضاف الأب باخوم، أن الكنيسة منعت استقبال المهنئين هذا العام، وفيما تواصل الكنيسة المراسم والطقوس الروحية السابقة التابعة لاحتفال عيد الميلاد، فإن ذلك تضمن الشروط الخاصة باستقبال عدد محدود من المصلين بحجز مسبق مع الكنيسة، منعاً لانتشار العدوى. وأشار إلى أن الكنيسة الكاثوليكية شهدت إصابات عديدة بفيروس كورونا، دون تسجيل وفيات بين الكهنة.
فيما أوضح الأب، رفيق جريش، المتحدث السابق باسم الكنيسة الكاثوليكية ورئيس لجنة الإعلام بمجلس كنائس مصر، لـ"اندبندنت عربية" أنه في ظل التزايد الكبير بعدد حالات الإصابات بفيروس كورونا، فإن بعض الكنائس قلصت أعداد المصلين المسموح باستقبالهم إلى 20 في المئة من سعة الكنيسة، مع الحجز المسبق عبر الإنترنت. وأضاف أنه لاستيعاب أكبر عدد ممكن من المصلين، تقوم الكنائس بإقامة عدة قداسات في فترات مختلفة، وفي ما يتعلق بقداس العيد فسوف يقام ثلاثة قداسات.
وبحسب بيان صادر عن رئيس الطائفة الإنجيلية القس أندريه زكي، فتم تحديد 5 يناير لاحتفال الطائفة الإنجيلية بعيد الميلاد المجيد في كنيسة قصر الدوبارة، مع اقتصار الحضور على أعضاء المجلس الإنجيلي العام ورؤساء المذاهب الإنجيلية في مصر، ورعاة كنيسة قصر الدوبارة، وسيتم إذاعة الاحتفال على القنوات الفضائية المصرية والمسيحية بما لا يزيد على 40 شخصاً، مع البث المباشر على وسائل التواصل الاجتماعي. كما ترك البيان للكنائس حرية الاحتفال، بحضور عدد محدود جداً من المصلين.
وأكد زكي، في تصريحات تلفزيونية، أن حياة الناس وصحتهم تأتي أولوية، مشيراً إلى أن اللجنة الطبية التابعة للكنيسة الإنجيلية أوصت بتعليق العبادات نظراً لظهور حالات عدة بين المواطنين، بخاصة في محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية والإسكندرية، فضلاً عن بعض الوفيات بين قادة الكنيسة، التي بلغت خمسة أشخاص خلال الشهرين الماضيين. وأشار إلى أن الطائفة الإنجيلية ستجتمع مجدداً في منتصف يناير المقبل لتقييم الموقف وفقاً لإرشادات الدولة، إذ ستواصل الإغلاق في حال تصاعد منحنى الجائحة.
تقييم الوضع الصحي
وبالنسبة إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فقد اتخذت عدة قرارات يتم العمل بها في كنائس القاهرة والإسكندرية حتى 31 يناير 2021، بينها أن يقام قداساً عيدي الميلاد والغطاس بمشاركة كهنة الكنيسة وعدد لا يزيد على عشرين شخصاً، ويقام قداس واحد فقط أسبوعياً، ويقتصر على كهنة كل كنيسة بمشاركة ما لا يزيد على خمسة شمامسة.
وفي أوائل ديسمبر الحالي، أعلنت الكنيسة الأرثوذكسية تعليق كافة الاجتماعات والأنشطة الخدمية والقداسات لمدة شهر، وأوضحت الكنيسة في بيانها، الذي جاء بعد زيادة ملحوظة في أعداد الوفيات بسبب كورونا، تعليق سهرات شهر "كيهك" تماماً، والاكتفاء بمتابعة تسجيلات للصلوات المسجلة التي تذاع على القنوات الفضائية المسيحية، إلى جانب إقامة صلوات الجنازات بكاهن واحد و شماس واحد فقط، مع أسرة المتوفى ويفضل أن يكون ذلك في كنائس المدافن.
وسهرات أو تسبيحات "كيهك"، هي صلوات ليلية تستمر حتى منتصف الليل أو فجر اليوم التالي، خلال أيام السبت والثلاثاء والخميس طوال شهر ديسمبر. وتسمى صلوات سبع وأربع نسبة إلى سبع إبصاليات (الإبصالية هي أشعار قبطية موزونة ومقفاة صوتياً كالشعر، وغالباً ما تكون مرتبة على الحروف الهجائية القبطية، وتحتوي على تمجيد خاص بالمسيح في ميلاده وأعماله)، وأربع هي نوع آخر من التسبيحات أو ما يسمى بالقبطية (غويسات)، إذ يصلي الأقباط هذه التراتيل خلال الأيام الثلاثة بنغمة "كيهكية".
الجدير بالذكر أن البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، ترأس صلوات أسبوع الآلام وعيد القيامة، في أبريل (نيسان) الماضي، بدير الأنبا بيشوي في وادي النطرون، بمشاركة رهبان الدير فقط، ونُقلت الصلوات عبر قنوات التلفزيون المسيحية، في ضوء الإجراءات الاحترازية التي اعتمدتها الكنيسة منذ تفشي فيروس كورونا. وفي بيان رسمي، أعلن دير الأنبا بيشوي عن عدم استقبال الزائرين حتى إشعار آخر، نظراً لتزايد أعداد الإصابات بفيروس كورونا.
الإفخارستيا
ومع بدء جائحة كورونا، أثير جدل في مصر بشأن طريقة تناول الأسرار المقدسة "الإفخارستيا" نهاية القداس، حيث اعتادت الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية على أن يقوم الكاهن بوضع القربان والنبيذ بنفسه في فم الشخص. وفي ظل تفشي فيروس شديد العدوى ظهرت مطالبات لتغيير هذه الطريقة بخاصة أنها (تاريخياً) لم تكن تلك هي الطريقة المتبعة.
ولم تغير الكنيسة الأرثوذكسية من طريقتها أو ما يسمى بطقس التناول، لكن بحسب الأب جريش، فإن الكنيسة الكاثوليكية باتت تتبع التناول من طريق اليد للوقاية من أي عدوى منذ تفشي الجائحة.
اختلاف التقويم بين الشرق والغرب
في حين تحتفل الكنيسة الكاثوليكية المصرية يوم 25 ديسمبر بعيد الميلاد، فإن الكنيسة الأرثوذكسية القبطية والكنيسة الإنجيلية والطوائف التابعة، تحتفل في السابع من يناير من العام الجديد، وذلك ليس لخلاف عقائدي، ولكن لاختلاف في التقويم والحسابات الزمنية بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية.
ويمكن إرجاع التغيير إلى عام 1582 عندما بدأت الكنائس الكاثوليكية الرومانية والشرقية الأرثوذكسية في استخدام التقويمات المختلفة، بينما بدأت الكنائس الغربية في اتباع التقويم الغريغوري، واستمرت الكنائس الأرثوذكسية في اتباع التقويم اليوليوسي الأقدم، وهو ما يتماشى مع التقويم القبطي القديم.
التاريخ الفعلي لميلاد السيد المسيح غير معروف، ومع ذلك في بداية القرن الرابع وافقت الكنيسة في جميع أنحاء العالم على الاحتفال بمولده في الـ25 من ديسمبر وفقاً للتقويم اليولياني، الذي قدمه يوليوس قيصر عام 46 قبل الميلاد، ويتزامن ذلك التاريخ مع 29 كيهك في التقويم القبطي، الذي يأتي بعد الانقلاب الشتوي مباشرة ويمثل بداية لضوء النهار.
لكن، في القرن السادس عشر لاحظ العلماء العاملون تحت إمرة البابا الروماني غريغوري الثالث عشر خطأً مدته 11 دقيقة في حساب طول السنة الشمسية اليونانية، التي يُعتقد أنها تمتد إلى 365 يوماً و6 ساعات، ولتصحيح هذا الخطأ أعاد البابا غريغوري الثالث عشر حساب النظام بأكمله. وقدم تقويمه الغريغوري الذي ينص على أن العام يستمر مدة 365 يوماً، و5 ساعات، و48 دقيقة، و46 ثانية أي أقصر تقريباً بـ11 دقيقة و14 ثانية تقريباً من التقويم اليولياني.
نتيجة لذلك، أصبح التقويم اليوليوسي متأخراً عن نظيره الغريغوري بـ13 يوماً، وهكذا فإن 25 ديسمبر (29 كيهك) في النظام اليولياني يقع في 7 يناير في النظام الغريغوري. ولم يغير هذا فقط من توقيت الاحتفال بعيد الميلاد بين الكنيستين، إنما من توقيت الاحتفال أيضاً بعيد الغطاس الذي يشير إلى معمودية السيد المسيح، إذ تحتفل الكنيسة الكاثوليكية في 6 يناير، بينما الأرثوذكسية في 19 يناير.