يتميز المنظر من قمة المرتفعات الغربية، وهي الهضبة العظيمة المحصنة المطلة على دوفر، باحتوائه على عديد من السمات الرئيسة التي تسهم في رسم معالم الحياة ببريطانيا في عصر بريكست و"كوفيد-19". وأهم هذه السمات المسافة القريبة التي تفصل تلك البقعة عن الشاطئ الفرنسي المتلألئ في الأفق على بعد 22 ميلاً، وهي حقيقة جغرافية ستقرر على الدوام ما سيحدث في بريطانيا أكثر مما تستطيع أي اتفاقية تجارية أو اتفاقية انسحاب يجري توقيعها مع الاتحاد الأوروبي، أن تفعل.
وإذا كانت هناك حاجة إلى دليل على صحة هذه الملاحظة، فقد توفر هذا البرهان أثناء عيد الميلاد، وذلك من خلال التأثير المدمر للحظر الفرنسي على دخول سائقي الشاحنات الراغبين في عبور القناة ممن لم يخضعوا لفحص يظهر ما إذا كانوا مصابين بفيروس كورونا. وجرى فرض هذا الحظر في محاولة لمنع هؤلاء السائقين من نشر السلاسة الجديدة للفيروس في فرنسا. ولعل عرقلة المرور الهائلة بسبب عدد سائقي الشاحنات العالقين هناك، أظهرت بوضوح تام مدى اعتماد بريطانيا على سلسة الروابط الخالية من القيود مع أوروبا القارية.
وعززت المشاجرات القصيرة التي شهدتها تلك الفترة رسالة تنطوي على التهديد، كانت قد وجهت بالفعل خلال المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، ومفادها أنه عندما يحين الوقت لاتخاذ الإجراءات الفعلية سيترتب على المملكة المتحدة حينذاك أن تلعب دور الجهة الأضعف في أي مواجهة. ولقد شهدنا سلفاً كيف كان ميزان القوى يميل بصورة دائمة ضد بريطانيا وفي صالح الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولا سيما مع موافقة المملكة المتحدة على نقل الحدود التجارية بين (إقليم) إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا إلى منتصف البحر الإيرلندي.
في غضون ذلك، تدفق الصحافيون خلال فترة قصيرة على دوفر بغرض نقل أخبار توقف الميناء الذي يتمتع بكفاءة فائقة عن العمل بشكل كامل، علماً أنه كان قادراً في العادة على إرسال 10 آلاف شاحنة يومياً ذهاباً وإياباً بين بريطانيا وفرنسا. وقد لفتت قلة منهم النظر إلى حقيقة أخرى عن دوفر، من شأنها أن تسبب قدراً أكبر من الضرر لبريطانيا من أي إجراء من شأنه أن يعوق التعاملات التجارية على المدى القصير، وهذه الحقيقة تلقي كثيراً من الضوء على الأمور بما يسمح بتفسير قرار لندن بمغادرة الاتحاد الأوروبي.
فعلى بعد بضع مئات من الأمتار عن الميناء العامر الذي يضج بالحياة، تقع بلدة دوفر التي يخيم عليها الهدوء وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. واللافت أن أهل هذه البلدة يكادون لا يستفيدون بالمرة من عائدات التجارة، التي تقدر بـ122 مليار جنيه إسترليني سنوياً (حوالي 160 مليار دولار أميركي)، مع أنها تتدفق عبر طرق تمر من أمام بيوتهم. وبدلاً من أن يستفيدوا، فقد شهدوا اختفاء أرباب العمل الكبار الذين كانوا في البلدة يوماً، كالخدمات البحرية ومعمل الورق والثكنات العسكرية والسجن، والذين غادروا دوفر خلال الـ48 سنة التي كانت فيها بريطانيا من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
قد لا تكون بروكسل مسؤولة عن هذا التداعي الاقتصادي في البلدة (دوفر)، بل ربما كانت كبش فداء عرضياً له من دون أن تدري. غير أنها دفعت ثمن توليها المسؤولية عن خلق ظروف رفضها كثير من أبناء دوفر معتبرين أنها تمثل وضعاً قائماً غير مقبول. وهكذا، كانت الحملة المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى جانب نسخة بوريس جونسون من حزب المحافظين Johnsonian version of the Conservative Party الذي تحول حالياً إلى حزب قومي إنجليزي متشدد، عبارة عن وسيلة مناسبة لأبناء دوفر للتعبير عن شكواهم من أنهم تعرضوا للإهمال (من أوروبا) فتخلفوا عن الركب أو تركوا وشأنهم وراءه.
وتعتبر حالة دوفر هذه أشبه بحكاية معبرة عن إنجلترا الحديثة باعتبارها لا تشتمل فحسب على أمثلة على نجاح العولمة، وأخرى على فشلها، تقف جنباً إلى جنب، بل هي أيضاً مليئة بالشواهد التي تذكر بماضٍ أكثر تألقاً. ففيها تقوم قلعة الملك هنري الثاني التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر، وتعتبر أعظم قلاع القرون الوسطى في البلاد، كما إن البلدة قريبة من مقر قيادة عمليات إخلاء دانكيرك التي تم حفرها في أعماق منحدرات دوفر البيضاء الشهيرة White Cliffs، بيد أن كلاً من هذين المعلمين يعزز القناعة القومية القائلة إن بريطانيا تكون في وضع أفضل حين تبقى وحيدة، لكن التغذي فحسب على خليط صرف من الانتصارات والإنجازات الموغلة في القدم، الذي يحرص رواته على عدم تضمينه كل الهزائم والإهانات التي تعرضت إليها البلاد، يخلق ثقة مفرطة ترتكز على الأمنيات والأحلام عن العالم الواقعي، إضافة إلى الاعتقاد المضلل على نحو خطير بأننا "فعلنا ذلك من قبل ونحن نستطيع أن نفعله من جديد".
بيد أن التفكير السحري على هذه الشاكلة ليس إنجليزياً بشكل حصري، بل على العكس من ذلك، إن اللافت في "الاستثنائية" الإنجليزية أنها غير استثنائية تماماً. فكل الحركات القومية على امتداد قرون عدة، من هانوي إلى وارسو فهراري وفيلادلفيا، قد سعت إلى تنمية شعور بالتفوق العرقي أو الثقافي، أو بالاختلاف في أقل اعتبار. وقد أخطأ أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي خلال الاستفتاء والسنوات التي تلته حين فشلوا في فهم أن الدولة القومية لا تزال محور الولاء الجماعي وعنوان الهوية المشتركة لكثير من أبناء البلاد، وهو شعور عززته الهجمة الشرسة للعولمة الثقافية والاقتصادية.
ومما يدل على مدى ضيق التفكير الإنجليزي هو فوز دومينيك كامينغز بثناء واسع وتعرضه أيضاً إلى إدانة واسعة في الوقت نفسه، وذلك على مكره الشيطاني المفترض الذي صاغ بفضله شعارات قومية شاملة، على شاكلة "استعيدوا السيطرة" سيئ الذكر، وهي شعارات تكاد لا تختلف عن تلك التي ترددها حركات التحرير في كل مكان. لا شك أن أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيشعرون بالهلع من فكرة التشابه بينهم وبين "شين فين" (حزب ينشط في إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، ويعتبر الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي)، لكن العبارات التي يترنمون بها تشبه إلى حد كبير تلك التي يتغنى بها حزب "شين فين" الذي يعني اسمه "نحن لوحدنا"، علماً أنه كان يمثل أنجح الحركات القومية في الجزر البريطانية كلها.
وتحمل النسخة المعدلة من نزعة القومية الإنجليزية المفرطة لحزب المحافظين كل نقاط الضعف والقوة التي تميز الحركات القومية كافة. وغالباً ما تتهم وسائل الإعلام بوريس جونسون بـ"المبالغة في الوعود وأيضاً في عدم تحقيقها"، مع أن هذا يعتبر سلوكاً شائعاً بين قادة الحركات القومية.
فهذه الوعود تصطدم على الدوام بالواقع، بيد أن القوميين نادراً ما يقرون بأخطائهم، ويعمدون بدلاً من ذلك إلى تحميل أعداء غامضين داخل البلاد وخارجها مسؤولية هذه الأخطاء. هكذا ادعى أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي خلال الاستفتاء أن الحرية الشخصية والقومية متطابقتان تماماً، ولكن حالما وصلوا إلى السلطة، ضحوا بالحرية الشخصية، المتمثلة في المحاكم والبرلمان والصحافة الحرة، في سبيل تعزيز المشروع القومي.
وتعاني هذه المشاريع عادةً الإرباك لأنها منسوجة من الأحلام. مثلاً، كان دونالد ترمب قد وعد بـ"جعل أميركا عظيمة من جديد"، غير أنه يتركها في نهاية ولايته أضعف، وتعاني انقسامات أكثر، وأقل مصداقية منها في أي وقت مضى. من جانبه، يعد جونسون بأن بريطانيا "ستزدهر بقوة" خارج الاتحاد الأوروبي، مع أن أياً من أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يستطع أن يقدم حتى الآن تفسيراً منطقياً (واحدا) لماذا يجب أن يحصل ذلك.
لطالما جادلت أن الخطر الأكبر يكمن ليس في مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، بل في أنصار هذا الخروج أنفسهم لأنهم كانوا يروجون للأوهام السياسية والاقتصادية، وسيستمرون على فعل ذلك. بالإضافة إلى ذلك، فإنهم كانوا يبيعون هذه الأوهام تحت أسماء مختلفة لأشخاص مختلفين: ضم التحالف المناهض للاتحاد الأوروبي ناشطين مؤيدين لاقتصاد السوق ممن يعبدون ثاتشر، وهم يعملون في تنسيق مؤقت مع أولئك الذين رأوا أنهم كانوا ضحايا لثاتشر.
بدا حتى وقت قريب أن أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي كانوا يسبحون مع التيار. في هذه الأثناء، بدا أن أهمية التحالفات الدولية والمنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، تتضاءل. ولفت دبلوماسي بريطاني سابق نظري في 2016 إلى أن "أوروبا تغص بمراكز البحوث والمعاهد الأكاديمية المعنية بدراسة الاندماج، لكن يتبين أنه كان ينبغي بهذه المؤسسات أن تدرس التفكك".
بدا حينذاك أن الأحداث كانت تعطي لتكهناته مبررات لا تدعو إلى البهجة، وأن أطروحته قد وجدت دليلاً إضافياً يؤكدها حين بدأ الاختبار الأهم لـ"كوفيد-19"، وشهدت تلك الفترة في 2020 انهماك كل دولة قومية بالاهتمام بمصالحها هي بشكل حصري، لكن ظهرت منذ الصيف الماضي بوادر تدل على حصول تحول هذه الموجة. فقد غرق ترمب بسبب عدم كفاءته التي تثير السخرية خلال تفشي الوباء. وأقام الاتحاد الأوروبي صندوق إغاثة مشتركاً بقيمة 750 مليار يورو. وأياً كانت الخطط التي وضعها جونسون لإعادة بناء الدولة البريطانية بشكل جذري، فهي محكومة أن تبقى على الدوام غير فعالة، وذلك بسبب عدم كفاءته هو علاوة على الأضرار الكارثية التي ألحقها الوباء بالاقتصاد.
لم يبدُ في 2016 أن من الحتمي أن يصبح الاتحاد الأوروبي أكثر توحداً وتماسكاً، بشكل مؤقت على الأرجح، بسبب خروج بريطانيا منه، وأن تصبح المملكة المتحدة أكثر انقساماً، بصورة دائمة على الأرجح، في حين تنأى كل من اسكتلندا وإيرلندا الشمالية بنفسيهما بشكل متزايد عن المملكة المتحدة. أما بالنسبة لإنجلترا، فقد كان الخروج من الاتحاد الأوروبي بمثابة واحد من أعراض المشاكل الرهيبة لأشخاص يعيشون في أمكنة مثل دوفر، مع عدم وجود أدلة على أنها (الحكومة) ستفعل أي شيء لمساعدتهم.
© The Independent