لم يكن نقل اللقاء الخليجي إلى العلا هو المفاجأة الوحيدة التي حملتها أعمال القمة الـ41، فقد كانت الانفراجة الواسعة التي حملها الإعلان النهائي شكلاً من أشكال المفاجآت التي لم يكن هناك ما يوحي بها قبل تلاوته نهاية اليوم الطويل.
فعلى الرغم من الإشارات والتصريحات الرسمية التي استمر المسؤولون في دول المقاطعة بالإدلاء بها في الأشهر الأخيرة، حول تحقيق اختراق في المفاوضات، إلا أن التصريحات ذاتها لم تحمل أي إشارات عن خريطة منهجية للحل، الأمر الذي ضيّق الأفق أمام توقعات نهاية الأزمة حتى ليلة القمة.
إذ فاجأت الخطوات العملية التي اتخذتها كل من الرياض والدوحة تجاه بعضهما البعض مساء الاثنين الرابع من يناير (كانون الثاني)، أي قبل ساعات من توافد القادة إلى العلا، بفتح الحدود البرية والجوية التي ظلت مغلقة طيلة السنوات الماضية، من دون أن يحمل الإعلان الثنائي بالفتح أي تفاصيل حول الاختراق الذي تحقق ودفع بهذه الخطوة نحو التطبيق، ما جعل "إعلان العلا" المرتقب في اليوم التالي أكثر أهميةً علّه يحمل في طياته إجابات على السؤال.
البحث عن الحل الجذري
السؤال الأهم الذي انتظره المترقبون للبيان الختامي في الخامس من يناير، كان "حول كيف عالجت الدول الخليجية تحفظاتها من بعضها البعض"؟
إذ تملك الرياض تجاه جارتها الصغيرة تحفظاً قديماً، تجلى في 2013 بعدما وجد الأمير الجديد آنذاك الشيخ تميم بن حمد نفسه مضطراً للتوقيع على "اتفاق الرياض" الذي يتعهد فيه بمراعاة التحفظات السعودية تجاه ما تصفه الرياض بأنه تدخلات في سيادة دول الجوار، وانتهاج سياسات مزعزعة للاستقرار، وهو ما تفهّمه أمير قطر في حينها وإن كان قد فشل في الالتزام بما وقع عليه بعد فترة قصيرة، لتنطلق ما اصطلح على تسميته بـ"أزمة سحب السفراء" في مارس (آذار) 2014، أي بعد أربعة أشهر من التوقيع.
استمرت الأزمة حتى نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، بعد أن نجحت وساطة كويتية في حينها بإعادة المياه إلى مجاريها بتوقيع قطري جديد تحت مسمى "اتفاق الرياض التكميلي"، الذي أعادت بعده الرياض وأبوظبي والمنامة سفرائها إلى العاصمة القطرية.
إلا أن الاتفاق التكميلي لم يكمل سوى أربع سنوات حتى انهار في منتصف 2017 عندما بدأت ما تعرف باسم "أزمة المقاطعة الرباعية" لذات الدول بمعية مصر، حاملة المبررات ذاتها التي فشل اتفاق الرياض في 2013 والاتفاق التكميلي في 2014 في معالجتها.
قطر بدورها تملك تحفظات مشابهة تجاه جيرانها، إذ تعتقد الإمارة الخليجية الغنية أنها محاطة بجارة كبيرة وأخريات تدور في فلكها، لا يحبذون أن يكون لها سياسة خارجية مستقلة، ويسعون باستمرار لانتهاك قرارها السيادي عن طريق محاولة تطويعه تحت مبررات مكافحة الإرهاب أو حماية استقرار المنطقة، أو حتى رميها بتهم التدخل في شؤونهم، وهو ما تنفيه الدوحة باستمرار مدعية كيدية التهم.
هذه التحفظات المتبادلة، القديمة المتجددة، سرعان ما تنتهي بكل مرة عن طريق التعهد بمراعاة التحفظات والعمل على احترام حاجة بعضهم البعض لسياسات أكثر وداً من الطرف الآخر، وهو ما ظل ينهار في كل مرة تحت وقع الاختبارات السياسية في الملفات الخلافية، الأمر الذي جعل أزمة المقاطعة الأخيرة أكثر حدّة من أن يتم تجاوزها من دون حل جذري.
حبر جديد وتعهد
أجاب الإعلان الختامي على كل الأسئلة التي طرحت والتي لم تطرح حتى، إلا أنه لم يجب على السؤال الأول في قائمة كل صحافي حضر القمة في القرية التي تقع في شمال غربي السعودية.
إذ أكد المجلس الأعلى للتكتل الخليجي، وهو أعلى سلطة فيه، حرصه على قوة وتماسك مجلس التعاون، ووحدة الصف بين أعضائه، لما يربط بينها من علاقات خاصة وسمات مشتركة أساسها العقيدة الإسلامية والثقافة العربية، والمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها، ورغبتها في تحقيق المزيد من التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين، مؤكداً وقوف دوله صفاً واحداً لإعلاء المصلحة العامة للكيان ودوله، وهي الرسالة ذاتها التي حملتها كلمات القادة ومسؤولي دول الخلاف والوساطة في بياناتهم، مفسرين فيها أسباب انتهاء الأزمة في هذه اللحظة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ما يتعلق بالخطوات العملية التي أسهمت في رأب الصدع وصنع نقطة المنتصف بينهم، لم يحمل الإعلان سوى حبر جديد لتوقيع التعهدات ذاتها عن تفهم الدول للتحفظات المتعلقة بالسيادة وحرصها على احترامها، ورفضها كل ما من شأنه المساس والإضرار بها، من دون أن تفضح الدول المتنازعة عن ماهية التنازلات التي تم تقديمها في جولات المفاوضات، أو حتى الضمانات التي تجعل العواصم الخليجية واثقة من أن تعهداتها المتبادلة سيتم احترامها، من دون الحاجة للعودة للخلاف من جديد كما حصل في المرتين السابقتين، ولماذا يفترض بشهر يناير 2021 أن يكون مختلفاً عن نوفمبر 2013 و2014، في مشهد يبدو في ظاهره رغبة مشتركة في الوصول لحدٍ أدنى من التوافق بين دول الخليج لمواجهة ملفات طارئة، ربما تعود للخلاف بعد تجاوزها، بحسب مراقبين.
الأمر الذي أشار إليه الدكتور منيف الملافخ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الملك سعود، في حديث معه سبق القمة بأن الملف النووي الإيراني يشكل نموذجاً للدوافع التي تحرك دول الخليج نحو توافق تكتيكي "تدرك دول الخليج مدى حساسية وخطورة الملف النووي الإيراني على المنطقة وإن تفاوتت في تقدير خطره عليها، إلا أن المرحلة المقبلة التي يُطرح فيها إعادة التفاوض على الاتفاق النووي من قبل إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن وفق قواعد جديدة تضمن مشاركة دول الخليج في صياغته، تتطلب حداً أدنى من التوافق يجعل المجلس قادراً على المشاركة بموقفه ككتلة في ظل استحالة أن يشارك كلٌ على حدة".
تفاوت في الحماسة تجاه المصالحة
لم تخض دول المقاطعة وقطر حواراً مباشراً طيلة الفترة الماضية على رغم إقرارهم بالحل الموقع اليوم، إذ انفردت الرياض بالتفاوض مع الدوحة بالنيابة عن شريكاتها في المقاطعة، كما صرحوا هم بذلك، ما جعلهم معنيين بالحل الذي وصلت إليه الدولتان.
انعكس هذا البعد عن جولات المفاوضات على ردود أفعالهم على رغم اللغة الودية التي اكتست الكلمات والبيانات الختامية، والتعليقات الوزارية بعد القمة، إلا أن تفاصيل صغيرة خلقت تفاوتاً واسعاً في استقبال الواقع الجديد بين الإمارات الخليجية.
فعلى سبيل المثال، اكتفت السعودية وقطر بإعلان فتح الحدود البينية بينهما عشية القمة، فيما تركت بقية الدول مهمة الإعلان للعبارات الواسعة في البيان الختامي، الذي قال إن "إعلان العلا هو إعلان بنهاية كل الإجراءات التي كانت متخذة طيلة سنوات الخلاف الماضية"، الأمر الذي اضطر وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى شرحها في المؤتمر الصحافي بأنها عبارة مرادفة لفتح الأجواء والحدود وإنهاء المقاطعة بشكل رسمي بين الرباعي وإمارة قطر.
تفاوت آخر صاحب القمة، إذ لم يحظ يوم التجمع الخليجي الأهم، بمساحة وازنة في التغطية الإعلامية بمختلف دول الخليج سوى في طرفي التفاوض، السعودية وقطر، ودولة الوساطة الإقليمية المتمثلة باللكويت.
إيران أولى الضحايا
وإن كان البيان قد حمل مواربة في عدد من طياته، بخاصة في شقه السياسي، إلا أنه لم يشهد إجماعاً ومباشرةً كما شهده الموقف من إيران.
فعلى الرغم من التوافقات الاقتصادية والأمنية، وحتى الصحية، إلا أن إيران التي استفادت من الميل القطري صوبها خلال السنوات القليلة الماضية بشكل مباشر، وجدت نفسها أولى الملفات التي طيّرها نسيم العلا البارد، عندما قرر المجتمعون أن يثبتوا وحدتهم على حسابها، في موقف كشف عن قدرة طهران المحدودة في أن تكون جزءاً من علاقة طبيعية مستدامة مع ضفة الخليج الأخرى.
إذ شدد الإعلان على موقف المجلس الثابت من الجزر الإماراتية المحتلة من قبل الجمهورية الإيرانية، مطالباً إياها باحترام القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار واحترام السيادة، رافضاً بشكل قاطع كل تدخلاتها "الطائفية والمذهبية" في دول المنطقة.
وأجمع المجلس على ضرورة أن تعالج أية عملية تفاوضية مع إيران سلوكها المزعزع لاستقرار المنطقة، وبرنامجها الصاروخي، بما في ذلك الصواريخ الباليستية والكروز والطائرات المسيرة، والبرنامج النووي الإيراني في سلة واحدة من دون تفريق، مرحباً بالقرار الأميركي بتصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية.
ولم يقف هذا الإجماع الصريح عند إيران، بل طاول حلفاءها الحوثيين في اليمن و"حزب الله" في لبنان بالإدانة، مشدداً على أهمية استعادة الدولة أمام عوامل هدمها في هذه الدول.
وعلى رغم أن وثيقة العلا الختامية حملت ملفات توافق كثيرة، إلا أن الشق السياسي كان أكثرها ترقباً، والجانب المتعلق بآلية حل الخلاف والضمانات حول عدم تجددها كان السؤال الأهم الذي لم يجب عليه أحد، سوى تطلعات مبنية على حماسة القادة للتصالح، وحرصهم على حماية التوافق الخليجي، كما قال وزير الخارجية السعودي والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي في إجابتهم على تكرار السؤال بعدة صياغات خلال المؤتمر الصحافي الختامي، ما يجعل الأمر يبدو وكأنه احتواء للخلاف وليس حلاً نهائياً له، بحسب مراقبين.