"احنا مشينا من بلد لبلد
احنا مشينا عالحسن والأدب
احنا خطبنا البنت من بيها (والدها)
يا بيها بسوى قليعة حلب".
تغمض السبعينية أم طاهر عينيها وتبدأ بصوت هادئ بدندنة مقاطع الأغنيات التراثية بألحانها التي حفظتها منذ الصغر، واعتادت على ترديدها في الأعراس حين يخرج موكب استقبال العروس باتجاه بيت الزوجية، وتكمل دندنتها بمقطع آخر تذكر فيه ما تقوله النساء في رقصة الحناء وحمام العريس وغيرها.
تتوقف أم طاهر برهة، وتقول إنه عادة ما تكون هناك سيدة تغني والبقية يرددن خلفها، أو تنشد النساء جماعة بصحبة الطبل، وأخريات يرقصن على هذه الألحان. وتستذكر أثناء حديثها تسابقهن على تأليف الأغنيات التراثية والإبداع في فنون الرد. ففي الأعراس، تنطلق إحداهن في مقطع لمدح عائلتها، لتجيبها أخرى بآخر مختلف بفخر، أو قد يكون هذا الأمر لإثارة الغضب وافتعال المشكلات، فالمقاطع المغناة تحمل كلاماً مبطناً يُقصد به أحياناً التقليل من شأن الطرف الآخر.
ومن الأعراس، تنتقل أم طاهر بسلاسة إلى أغاني الحصاد وطلب المطر وبناء البيوت والتخرج المدرسي والجامعي. وتضيف بأسف أنها اندثرت مع الوقت، ولم يبقَ منها سوى بعض الأغنيات في حفلات الزفاف، مفسرة ذلك بوفاة كبار السن وظهور الموسيقى الحديثة.
الأغنية التراثية للتعبير عن مناحي الحياة كافة
هناك أشكال عدة للأغنية الشعبية في فلسطين كالزجل والعتابا والموال والدلعونا، وهي لم تستخدم فقط للتعبير عن المشاعر أو التسلية، فالبعض سخّرها لتوثيق أجزاء من التاريخ أو رواية قصص الأبطال، أو الغربة أو الطعام أو الحب، عدا عن تلحين بعض الأغنيات لتصبح مادة موسيقية ترتبط بالفنون الأدائية كالدبكة.
ومن الأمثلة على ذلك، ما ألّفه أفراد من مقاطع قصيرة للحديث عن "أبو جلدة" و"العرميطي"، وهما فلاحان فلسطينيان انضما إلى الثوار في عهد الانتداب البريطاني، ومنها:
"قال أبو جلدة وأنا الطموني، كل الأعادي ما يهموني
قال أبو جلدة وانت العرميطي، وأنا إن متت يكفيني صيتي".
أغنية أخرى شهيرة تحمل اسم "ظريف الطول" تُقدم في المناسبات الاجتماعية والوطنية، وتختلف كلماتها باختلاف المناسبة، إذ تحكي قصة شاب فلسطيني كان يعمل نجاراً ولقّب بـ"ظريف الطول" لطوله، ورحل من قريته إبان النكبة وانضم إلى صفوف الثوار، ولم يظهر بعدها، ومن أشهر مقاطعها:
"يا ظريف الطول وقف تاقولك (أخبرك)
رايح عالغربة وبلادك أحسنلك".
مبادرات لتوثيق الأغنية الشعبية
ومع اختفاء بعض العادات والتقاليد، اختفت الأغنية الشعبية معها ولم تعُد تغنى، لأن حفظها كان يعتمد على التناقل الشفهي، ما استدعى الحاجة إلى توثيقها وتدوينها بأشكال مختلفة، كتسجيل الأغنيات بالصوت والصورة مع النساء اللواتي يحفظنها، ومن ثم نشرها ضمن مكتبة سمعية يشرف عليها مركز الفن الشعبي، متاحة للجميع من أفراد وفرق ومؤسسات لاستخدامها، كما قال منسق المشاريع في المركز رامي مسعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوضح مسعد أن المركز بدأ هذا البرنامج عام 1994 وتوقف عام 2000، ليعاد تفعيله بعد 20 عاماً، من خلال التركيز على ثلاثة محاور: الأغنية التقليدية المرتبطة بطقوس معينة كالأعراس والمواسم الزراعية والمناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها، وتلك المرتبطة بالحكايات الشعبية، أو المصحوبة بآلة موسيقية كالشبابة والمجوز واليرغول والربابة والمزمار ودق المهباش، مشيراً إلى أن بعض الأغاني تم توثيقها لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونيسكو".
أما الهدف الأساسي من ذلك، وفق مسعد، فيكمن في الحفاظ عليه ومنع اندثاره، وتشجيع الفرق الفنية على استخدامه في أعمالها، ليبقى راسخاً في أذهان الأجيال الأصغر عمراً، إضافة إلى أنه جزء من الهوية الفلسطينية ووسيلة لرواية حكايتها ونقلها من جيل إلى آخر، والتمسك بالأرض، عدا عن أهمية حماية هذا التراث من المحاولات الإسرائيلية لسرقته بمختلف أشكاله.
التشتت الفلسطيني يعيق التوثيق
قد تبدو عملية جمع الأغنيات التراثية وتحويلها إلى مكتبة صوتية أمراً سهلاً، إلا أن عقبات عدة تقف أمام مركز الفن الشعبي، أبرزها كيفية الوصول إلى كل الفلسطينيين حاملي التراث لصعوبة التنقل أو استحالته أحياناً بين القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، واللاجئين في الشتات، إضافة إلى طغيان الأغاني الحديثة على التراثية في المناسبات، وممانعة الأهل لتوثيق بعض الحفلات كالحناء مثلاً التي ما زال البعض يقيمها بطقوس تقليدية.
الأغنية التراثية والزي وجهان لعملة واحدة
بعيداً من المكتبة السمعية، فإن هناك من يحاول توثيق الأغنيات بإعداد المواد البحثية، أو جمعها في كتاب، أو ربطها بالزيّ الفلسطيني التقليدي من أثواب مطرزة أو القمباز.
وتقول لانا حجازي، صاحبة مبادرة الزي الفلسطيني، إنهم ينظمون سنوياً مسيراً في يوم الزي الموافق 25 من يوليو (تموز)، يرتدي خلاله المشاركون ملابس تقليدية ويرددون أغاني شعبية بمساعدة فرق نسوية أو سيدات يحفظن هذه المقاطع.
وترى حجازي أن ربط الزي بأشكال التراث كافة يسهم في الحفاظ عليه وعلى الهوية الفلسطينية والتعبير عن العلاقات الاجتماعية والارتباط مع الأرض، وترديد الأغاني أثناء الفعاليات المختلفة يساعد في ترسيخها في عقول المشاركين الآخرين، بخاصة صغار السن.