فيما تشتد حدة مخاطر الموجة الثانية لفيروس كورونا المستجد، إضافة إلى الأزمات التي خلفتها الجائحة الصحية على الاقتصاد العالمي، وخصوصاً أزمة الديون التي قفزت بشكل مرعب خلال العام الماضي، حذر صندوق النقد الدولي من توقف الحكومات عن مواصلة الجهود المالية والنقدية القوية لدعم اقتصاداتها، مع عدم اليقين الكبير في شأن المخاطر التي تشكلها عودة ظهور حالات كورونا والسلالات الجديدة.
وأشار صندوق النقد إلى أن "الاقتصاد العالمي يمر بمنعطف حرج، ولا يزال هناك قدر كبير من عدم اليقين". ولفت إلى أنه سيصدر تحديثاً للتوقعات الاقتصادية العالمية في 26 يناير (كانون الأول) الحالي، تعكس التطورات الأخيرة، بما في ذلك تطوير وتوزيع لقاحات كورونا، وإجراءات التحفيز الجديدة في الولايات المتحدة واليابان.
وفي الوقت الذي توقع صندوق النقد أن يتعافى الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي بنحو 5.2 في المئة، بعد انكماشه بنسبة 4.4 في المئة خلال عام 2021، رجح البنك الدولي أن ينمو الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي بنحو 4 في المئة فقط، محذراً من أن تزايد الإصابات بفيروس كورونا وتأجيل توزيع اللقاح قد يكبحان التعافي إلى 1.6 في المئة فقط، هذا العام.
وأشار البنك الدولي إلى أن الانهيار في النشاط بسبب جائحة فيروس كورونا، كان أقل شدة بشكل طفيف مما كان متوقعاً في السابق، لكن التعافي كان أيضاً أكثر بطئاً وما زال عرضة لمخاطر نزولية كبيرة. وقال إن "التوقعات القصيرة الأجل ما زالت ضبابية إلى حد كبير... إذا استمرت الزيادة في الإصابات بالفيروس وتأخر توزيع اللقاح، فإن ذلك قد يقيد النمو العالمي عند 1.6 في المئة فقط خلال العام الحالي".
وأوضح أنه مع سيطرة ناجحة على الجائحة وعملية تطعيم أسرع فإن النمو العالي قد يتسارع إلى نحو 5 في المئة. ولفت إلى أنه من المتوقع أن يكون لجائحة كورونا تأثيرات سلبية تستمر لفترة طويلة على الاقتصاد العالمي، وأن تباطؤاً كان متوقعاً بالفعل قبل تفشي الفيروس، مشيراً إلى أن العالم يواجه "عقداً من نمو مخيب للآمال" ما لم يبدأ تنفيد إصلاحات شاملة.
قفزة كبيرة في ديون العالم خلال 2020
وربما كانت أزمة الديون التي طاردت الاقتصاد العالمي خلال 2020 هي الأشد والأعنف على الإطلاق مقارنة بالأزمات الأخرى، سواء ما يتعلق بالركود أو بارتفاع العجز في الموازنات أو بتوقف عدد كبير من الأنشطة والقطاعات الاقتصادية.
فقد شهدت الديون العالمية زيادات مستمرة على مدار عام 2020، فيما تشير المعطيات القائمة إلى استمرار تضخمها في الأجل المنظور في المستقبل. ما يضع الاقتصاد العالمي أمام تحدٍ كبير، حتى وإن انتهت أزمة كورونا، وانحسرت تداعياتها على الاقتصاد.
ووفق الدراسة التي أعدها مركز المستقبل للبحوث والدراسات، ومقره الإمارات، فإن هذه الأزمة تعود إلى عوامل عدة ذات علاقة بقضية الديون نفسها. وأمام هذه المعطيات، لا تمتلك الدول كثيراً من الخيارات، وتواجه الاقتصادات خطر تعرضها لقصور في مصادر التمويل الحقيقية. وبالتالي، الدخول في ركود عميق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير بيانات حديثة لمعهد التمويل الدولي، إلى ارتفاع حجم الديون العالمية بأكثر من 17 تريليون دولار في عام 2020. ما دفع إجمالي تلك الديون إلى الارتفاع إلى 275 تريليون دولار في نهاية العام. وتشير هذه البيانات إلى أن الديون العالمية سجلت زيادة شهرية خلال 2020 بأكثر من 1.42 تريليون دولار. ما دفعها إلى تخطي حاجز 328 في المئة من إجمالي الناتج العالمي في نهاية العام.
وتتشابه التطورات التي طرأت على حجم الديون العالمية خلال عام 2020 مع التطورات التي تحدث في الغالب خلال أوقات الحروب، إذ تتوسع حكومات الدول في الإنفاق بينما تتراجع إيراداتها. ما يضطرها إلى الاقتراض بشكل حاد. وهذا ما حدث خلال العام الماضي. وأكد معهد التمويل الدولي أن الارتفاع في حجم الديون العالمية خلال العام كان مدفوعاً بالتراكم الحاد في الاقتراض الحكومي، في ظل الاستجابات الصارمة والمتزامنة للتداعيات الاقتصادية للجائحة. ما اضطر الحكومات إلى تغيير السياسة المالية والنقدية، والتوسع في الإنفاق بصرف النظر عن حجم ما يتوافر لديها من موارد تمويل حقيقية.
وفي ظل ما حدث خلال عام 2020، وتعرض الموازنات الحكومية العالمية لضغوط مالية كبيرة، فإن ذلك رفع نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي في نهاية العام إلى نحو 105 في المئة، بينما كانت هذه النسبة لا تتجاوز نحو 90 في المئة خلال عام 2019. ونتيجة لذلك، فإن هيكل الديون العالمية أصبح مختلاً، وركز ضغوطه بشكل كبير تجاه الموازنات الحكومية، التي يتوقع أن تعاني ضغوطاً شديدة خلال السنوات المقبلة، حتى بعد انتهاء أزمة كورونا، لا سيما مع ارتفاع فاتورة خدمة الدين العالمية.
ووفق الدراسة، فإن الخلل في هيكل الديون العالمية، يعزز المخاطر المرتبطة بها. وفي الوقت نفسه، فإن الديون الحكومية العالمية تتركز في عدد محدود من الدول، وهى الدول المتقدمة، التي تستحوذ على ما يصل إلى 87 تريليون دولار، أو بما يقدر بنحو 70 في المئة من إجمالي الديون الحكومية العالمية. كما أن الولايات المتحدة بمفردها تستحوذ على نحو 23 في المئة من الديون الحكومية العالمية، وبقيمة مطلقة تبلغ 20.4 تريليون دولار. ويتخطى هذا الحجم قيمة الناتج المحلي الإجمالي الأميركي.
ويمثل هذا التركز أزمة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، لا سيما أن الاقتصادات المتقدمة تواجه مصيراً ضبابياً في ما يتعلق بفرص التعافي من تداعيات الأزمة. فتضخم حجم الديون الحكومية يثقل كاهل الموازنات العامة في تلك الاقتصادات، ويضعف قدرة هذه الدول على الاستمرار في الإنفاق بالمستويات المرتفعة نفسها لفترات طويلة. وهو ما يزيد من تقليص فرص التعافي السريع لها.
أزمة تمويل الفجوة من خلال الاقتراض المحلي
المشكلة الأكبر في ديون الدول المتقدمة، تتمثل في أنه يتم تمويل الفجوة المالية الضخمة من طريق مصادر محلية. وبالتالي، فإن إمكانية استمرار هذه الدول في الاقتراض بالمعدلات نفسها ضعيفة للغاية. وإصرار البعض منها على الاستمرار في ذلك، سيضر بالاقتصاد المحلي، كونه يسحب من السيولة المتاحة للتمويل ويوجهها إلى الحكومة، متسبباً بذلك في حرمان الاستثمار الخاص من الحصول على تمويل بشروط مناسبة بالنسبة إليه. ومن شأن ذلك أن يضر به بشكل كبير.
في المقابل، فإن توسع الدول المتقدمة في اللجوء إلى أسواق الدين العالمي سيؤدي إلى منافسة دولية كبيرة على تلك السوق. وبالتالي، قصور حجم السيولة والائتمان المتاح. ما يعني تزايد صعوبة شروط الحصول على الائتمان بالنسبة إلى جميع الدول.
وهذه التطورات تدفع أسواق الدين العالمي إلى تغيرات كبيرة، ولن يكون ذلك في مصلحة الدول الأكثر حاجة إلى الاقتراض الخارجي، وعلى رأسها الدول النامية والصاعدة. ففي حال استمرار أزمة كورونا، ومن ثم حدوث إغلاقات اقتصادية جديدة حول العالم، فإن ذلك سيتسبب في شح السيولة المتاحة أمام الدول الصاعدة والنامية للاقتراض. وسيؤدي استمرار الأزمة إلى تراجع الطلب العالمي على الموارد الأولية التي تمثل القوام الرئيس لصادرات الدول النامية والصاعدة. وسيقلص حجم تحويلات العاملين في الخارج وإيرادات السياحة بالنسبة إلى تلك الدول.
في الوقت نفسه، إذا كانت الارتفاعات الكبيرة في الديون الحكومية مبررة خلال عام 2020، كونها نتجت عن اقتراض الحكومات لتمويل خطط التحفيز الاقتصادي، وإذا كان للخطط التي نفذتها الحكومات دور إيجابي في تحفيز الاقتصادات على التماسك وإبدائه مؤشرات إيجابية في شأن النمو والتعافي بشكل أسرع مما كان متوقعاً، لا يمكن الاستمرار في هذا لفترة طويلة. فمن شأن عدم قدرة الحكومات كلياً، أو حتى تراجع قدرتها جزئياً، على الاقتراض، أن يترك الاقتصاد العالمي عرضة للانتكاس والدخول في موجة ركود عنيفة خلال عام 2021 وتستمر هذه الموجة لأعوام مقبلة.
ووفق المعطيات، فإن الفترة المقبلة تحمل في طياتها كثيراً من المخاطر بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، وإذا كان وقع تلك المخاطر على اقتصادات الدول المتقدمة يختلف عنه بالنسبة إلى الدول النامية والصاعدة، فإنه في حال لم تنته أزمة كورونا بشكل سريع، أو ما لم تتمكن الدول من إيجاد سبيل فاعل للتعامل مع التبعات الاقتصادية لتلك الأزمة، ومن دون أن تفرض التزامات كبيرة على الموازنات الحكومية والاقتصاد الكلي على المدى البعيد، فإن آفاق التعافي العالمي تظل قاتمة، وتبقى عرضة للاهتزازات المالية الشديدة في أي وقت.