مع تأزم الوضع في مالي إثر تعدد الهجمات الإرهابية، وتوالي الأخطاء التي يقوم بها الجيش الفرنسي والتي أودت بحياة مدنيين، وفي ظل ربط الجماعات المسلحة قيامها بعمليات إرهابية بوجودها، ودعوة الماليين القوات الفرنسية لمغادرة البلاد في إطار تظاهرات انطلقت منذ عام 2017، تطرح أسئلة حول جدوى هذا الحضور العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
وتعد هذه المنطقة من أبرز ملاذات الجماعات الإرهابية، وذلك بعد تضييق الخناق عليها في جل مناطق العالم. وصارت مركزاً رئيساً لتنظيمي "القاعدة" و"داعش"، عبر أذرعها التي أربكت الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إثر سلسلة من الهجمات أودت بالعديد من الأرواح.
الانقلاب العسكري
قامت مجموعة من العسكريين من ضباط ثانويين وجنود في 22 مارس (آذار) 2012 بانقلاب عسكري على نظام الرئيس أمادو توماني توريه، بدعوى سوء تدبيره لملف تمرد الطوارق في شمال البلاد، والذين أذاقوا الجيش مذلة كبيرة عبر توالي الهجمات باستخدام كم هائل من الأسلحة يفوق ما يملكه الجيش النظامي. واتُّهم توريه بالتغاضي عن نزع الأسلحة من المقاتلين النازحين من ليبيا، إثر سقوط نظام معمر القذافي، كما جرى في النيجر المجاورة.
وشكل الهجوم الذي وقع في 24 يناير (كانون الثاني) 2012 النقطة التي أفاضت الكأس، حيث قُتل 70 جندياً في شمال البلاد، في هجوم على حامية عسكرية من من مسلحي ائتلاف الحركة الوطنية لتحرير أزواد وتنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي، "جماعة أنصار الدين".
عجلت تلك الظروف بتحرك إقليمي ودولي من أجل ضمان استقرار المنطقة، وشرعت دول في التدخل للحفاظ على مصالحها وعلى سلامة رعاياها. وكانت فرنسا أول دولة تدخلت عسكرياً في إطار تفويض دولي بدعوى محاربة الإرهاب.
التدخل الفرنسي
تمكنت فرنسا في ديسمبر (كانون الأول) 2012 من إصدار القرار رقم 2085 من مجلس الأمن، الذي سمح لقواتها بالتدخل عسكرياً في سبيل ضمان الاستقرار الإقليمي وإعادة سلطة الدولة، وبخاصة حماية استثماراتها الاقتصادية والسياحية، التي تقدر قيمتها بنحو 900 مليون دولار.
وبدأت عملية "سيرفال" في 11 يناير 2013، وذلك بطلب من الرئيس المالي بعيد سيطرة الطوارق على منطقة الشمال بالكامل والتوجه للسيطرة على العاصمة باماكو. وعلى الرغم من نجاح التدخل العسكري الفرنسي في الحيلولة دون زحف الجماعات المسلحة جنوباً، فإن عمل تلك الجماعات لم يتوقف، وبالتالي أصبحت هناك ضرورة لتقييم إستراتيجية التدخل العسكري.
في أغسطس (آب) 2014، أطلقت القوات الفرنسية عملية "برخان"، أعادت خلالها نشر 3 آلاف جندي في منطقة دول الساحل الخمس، بتجهيزات كبيرة بما فيها مروحيات وعربات مصفحة وناقلات جوية، مع منحها صلاحيات للعمل عبر الحدود لملاحقة الإرهابيين.
يضاف إلى ذلك التحالف من أجل منطقة الساحل، الذي أسهمت في إنشائه عام 2017 مبادرة فرنسية ألمانية، من أجل تنسيق العمل وتحسين أحوال المواطنين في المناطق المتضررة من الخطر الإرهابي، إضافة إلى الدعم الفرنسي الكبير للقوة المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس، التي مكنت الأخيرة من تسهيل مهامها في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر.
إصرار على الوجود العسكري
بعد أكثر من سبع سنوات على الوجود العسكري الفرنسي في مالي، بدأت تطرح تساؤلات في الداخل الفرنسي حول الجدوى منه في وقت لم تنته فيه الهجمات الإرهابية في البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ظل توالي سقوط الجنود الفرنسيين في تلك العمليات، وكان آخرها مصرع 13 في اصطدام مروحيتين في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وصفت وسائل إعلام فرنسية الوضع بأنه سقوط فرنسي في مستنقع مالي.
وعلى الرغم من ذلك، تصر فرنسا على استمرار وجودها في الساحل الأفريقي، حيث أكد رئيس أركانها فرانسوا ليكوينتر أن بلاده "لا تنوي الانسحاب من مالي، لكنها تحتاج إلى مزيد من دعم حلفائها، لأن استقرار الأمن في هذه المنطقة ينعكس على أمن فرنسا وأوروبا".
من جانبه، يشير الباحث المغربي المتخصص في القضايا الأمنية في منطقة الساحل، عبد الواحد أولاد مولود، إلى أنه من الطبيعي أن تصر فرنسا على وجودها، باعتبارها المستعمر التقليدي من ناحية، ومن جهة أخرى لوجود صراع دولي بشأن المنطقة.
ويوضح أن التدخل الأميركي تم باستراتيجية عسكرية، إلا أنه فشل بدوره إلى حد ما في درء التهديدات الأمنية في دول الإقليم، معرباً عن اعتقاده بأنه كان بنية استغلال أو توفير أمن الطاقة استناداً لتقرير وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفلد عام 2000.
في المقابل، يلاحظ الباحث صعود النفوذ الصيني في المنطقة، الذي يركز على التنمية والاستثمار. كما بدأت موسكو بعقد اتفاقيات مع دول الإقليم، مرتكزة إلى دوافع عسكرية، حيث أصبح السلاح الروسي يغزو كل أقطاب أفريقيا، إضافة إلى أهداف اقتصادية لا يمكن تجاوزها.
سياسة الأمر الواقع
هذه العناصر، وفق أولاد مولود، جعلت فرنسا تتشبث بفرض سياسة الأمر الواقع على دول المنطقة، وهو الأمر الذي تبين من خلال الدعم الأوروبي بخاصة الألماني منذ التدخل الفرنسي بمالي، عبر عملية "سيرفال" التي تحولت إلى "برخان"، إضافة إلى الوحدة المشتركة "كاتوبا"، ثم عبر الشراكة من أجل تحقيق الأمن والاستقرار لمنطقة الساحل، وأيضاً مبادرة "دينار" التي تهدف إلى محاربة كل أنواع الاتجار غير المشروع، إضافة إلى التحالف من أجل منطقة الساحل الذي يهدف إلى رفع مستوى الأمن الاجتماعي وبخاصة الغذائي.
لكن كل المبادرات الفرنسية تعرضت لانتقادات من معظم النخب الساحلية الصحراوية، وهو ما يعزا وفق أولاد مولود إلى تأخرها واقتصارها على عسكرة المنطقة.
وعلى الرغم من تأكيد الباحث المغربي أهمية الدور الفرنسي في تقليص الخطر الإرهابي، فإنه يعتبر أن وجوده يرتبط في الأساس بتلكؤ فرنسا واعتمادها على العسكرة عوض سن مقاربة شاملة. فبعد أن أوقفت زحف "القاعدة" وحلفائها عام 2013، أصبحت سياستها في المنطقة غير واضحة المعالم. وهي لم تسهم في تنفيذ المبادرة التي أطلقها المبعوث الأممي رومانو بارودي عام 2013، لتعيش المنطقة أوضاعاً قاتمة في ظل عمل الجماعات الإرهابية على لملمة أوراقها، بعد استهداف زعمائها على غرار بلمختار ودروكدال وأبو الهمام وأبو ليث وأبو الدحداح، ليظهر جيل جديد أكثر راديكالية وخطورة.