أشعلت أزمةُ الوقود في سوريا موجةً عارمةً من السخط والتذمر الشعبيين بعد شللٍ حركة العربات في مدينة دمشق والمحافظات الواقعة تحت سيطرة السلطة، نتيجة الشح بكميته وزيادة إجراءات التقشّف من قبل الحكومة في الفترة الأخيرة، فيما تعزو وزارة النفط أسبابها للعقوبات الأميركية الاقتصادية على سوريا التي تحتاج إلى حوالي 4.5 مليون لتر من البنزين يومياً.
ولمواجهة النقص الحاد للوقود دفعت الوزارة بكثير من الإجراءات تلبية لطلبات سيلٍ جارفٍ من طوابير السيارات المتوقفة أمام محطات التعبئة، ولم يستطع المواطن النأي بنفسه عن مشقات المعارك وتداعياتها وهو يعيش في بلدٍ لا يزال يرزح تحت ويلاتِ الحرب العسكرية وحتى الاقتصادية، ليضطر إلى الوقوف يوماً كاملاً في انتظار ليترات قليلة لسيارته التي يدفعها دفعاً للوصول حتى محطة الوقود.
تقشف واستياء مبطن
ولا يخلو التذمر الشعبي أمام ترشيد الاستهلاك الذي تصفه وزارة النفط السورية بالمدروس، لمواجهة النقص الحاد في مخزون الإمداد بعد توقف شحنات النفط الآتية بحراً من إيران، عقب سلسلة تصريحات متبادلة بين الجانبين السوري والمصري بشأن عدم سماح القاهرة لناقلة النفط الإيرانية المرور لتفريغ حمولتها في الشواطئ السورية، وهذا ما نفته مصادر دبلوماسية مصرية.
لذا يتحتم على السوري الذي يملك سيارة أن ينتظر خمسة أيام ليملأ خزان سيارته بالوقود ولكن بكمية محددة لا تتعدى الـ 20 ليتراً، في إجراءٍ وصفته الوزارة بالموقّت. الحلول الإسعافية لم تجد نفعاً في تخفيف وطأة الأزمة ولم تستوعب المشكلة التي تتوسع شيئاً فشيئاً، وهي التي بدأت حدتها مع نشر وسائل إعلام سورية عن خطة حكومية لزيادة سعر الوقود وتخفيض الكمية الممنوحة.
الطلب الشديد على البنزين أنعش ما يسمى "السوق السوداء" حيث وصل راوح سعر الليتر الواحد خارج محطات الوقود بين 600 و800 ليرة سورية، فيما السعر المعتمد لدى وزارة النفط في محطة الوقود 225 ليرة، وأمام طلب أصحاب السيارات الحديثة، دفعت وزارة النفط للمرة الأولى من تخصيص محطتين للوقود متنقلتين (أوكتان 95) لتبيع البنزين بالسعر العالمي بمبلغ 600 ليرة، إذ يعد البنزين في البلاد من المشتقات المدعومة كالغاز والمازوت.
إجراءات التقشف
أثارت إجراءات التقشف الكثير من الانتقادات لطريقة التعاطي مع الأزمة، ويرى سوريون أن الطريقة يمكن تداركها بإجراءات أكثر مرونة كفيلة بمعالجة فضلى للمشكلة، خصوصاً أن الكثير من المواطنين لم يحصلوا على ما يسمى "البطاقة الذكية"، وهي البطاقة المعتمدة للحصول على البنزين.
في المقابل لم يتردد بعض السوريين في الدفاع عن إجراءات الحكومة التقشفية، مبررين ذلك بأن "دمشق وحليفتها طهران تتعرضان لأقسى العقوبات الأميركية، وبأنه لم تصل أي ناقلة نفط منذ 15 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والبلاد تنفق من المخازن الاحتياطية طوال الستة أشهر الماضية". وقدّر مصدر في وزارة النفط أن الحكومة تحتاج إلى فاتورة مالية يومية تبلغ حوالي ثمانية ملايين دولار.
طوابير لا ترحم
خلّفت أزمة البنزين الطارئة على البلاد، وبخاصة بعد استقرار وإعادة نسبة كبيرة من الأراضي للسلطة السورية في ريف دمشق وحلب، ازدياداً كبيراً في طلب المادة عمّا سبق، مع حالة الحصار التي تشهدها البلاد والعقوبات الاقتصادية التي طالت رجال أعمال داخل سوريا وخارجها، تحركت خلالها وزارة الاقتصاد لاستصدار قرارٍ بالسماح للمستثمرين والصناعيين السوريين في وقت سابق، باستجرار مادتي الفيول والمازوت على طريقتهم، من خارج سوريا في سابقة تعد الأولى من نوعها. تحركات دمشق لاحتواء الأزمة قبل تفاقمها، كانت تواجه بأبواب موصدة وتعلو راية العقوبات والحصار، ولم تُجدِ نفعاً الخطوط البرية، ومنها نقل النفط عبر العراق بالمطلوب، فـ 100 صهريج بحسب مسؤول في القطاع النفطي، هي في أعظم أحوالها حالة إسعافية لا تغطي الحاجة اليومية المتفاقمة. ومع تقاذف التصريحات بين دمشق والقاهرة بشأن مرور ناقلات النفط الإيرانية إلى سوريا، تتداول أنباء عن توجه ناقلة نفط محمّلة بـ 30 ألف طن مع وعود مسؤولين في القطاع النفطي عن انفراجات قريبة.
نفاد الصبر
تأقلم السوريون مع كل أشكال الأزمات الاقتصادية والخدماتية، خلال الحرب السورية وضراوتها، وما تركته من تأثير في معيشتهم ورزقهم، إذ يرى سوريون من أزمة البنزين مصدراً للتهكم من واقع مر يلتمسونه صباحاً ومساءً، يبثون عبر مواقع التواصل الاجتماعي صوراً طريفة للناس وهم مصطفون في طوابير على مداخل محطات الوقود، ومن أبرز اللقطات لعب "الشّدة" وهي اللعبة المحببة للعائلات والأصدقاء في سهراتهم، في حين أحضر أصحاب السيارات "النرجيلة" في إشارة لطول الانتظار.
في الجهة المقابلة، سوريون يجدون من الضروري التعامل مع الأزمة بروح معنوية عالية، وأن هذا الحصار سيمرّ وستعود المياه إلى مجاريها، في إشارة لتعبئة "الكازيات" كما يسميها السوريون لمحطات الوقود، لتطالعنا الكثير من المقاطع المصورة والصور الملتقطة لمواطنين يمارسون الغناء والرقص، خلال فترة الانتظار، حتى حضرت فرقة للفنون الشعبية قدّمت ما يسمى "عراضة شامية". ويعتبر مراقبون لهذه المشاهد الساخرة أنها حالة من حالات التنفيس عن السوريين الذين ملّوا الانتظار، ونفد صبرهم من واقع تعطيل عجلة دوران أعمالهم، حين فرغت شوارع المدن السورية من العربات وباتت شبه خاوية.
تحرك إيجابي
وعلى الرغم من انسداد أفق الحلول، انطلقت تحركات إيجابية من المجتمع المدني والمثقفين السوريين، الذين حاولوا الاستفادة من هذا الحشد الكبير على قارعة الطرق، ليطلقوا حملات عديدة من أبرزها حملة القراءة، وتولٰت نخبة من الشباب وتجمعات أهلية بتوزيع كتب ومجلات على السائقين. وانتشرت الحملات بأسماء وغايات مختلفة لمواجهة ندرة البنزين، ومنها حملة "اركن سيارتك" في إشارة إلى عدم الاعتماد على السيارة في كل التحركات، وبثت مواقع التواصل الاجتماعي صورة لأحد المدراء يستقل دراجة هوائية، في مبادرة توعوية للمجتمع بشأن ضرورة الاعتماد على بدائل للتنقل.
كما أطلق المجتمع الأهلي مبادرة "وصلني بطريقك" الهادفة إلى تفعيل التكافل الاجتماعي من خلال تقديم الدعم لمن ليس لديهم سيارات أو بنزين لتشغيل عرباتهم. وتبقى كل الحملات الأهلية والتحركات الحكومية لحل أزمة البنزين أمراً لا بد من مواجهته وتطبيقه حتى حلحلة أزمات المحروقات. ويرى مراقبون أنه حتى بعد حلها يجب التفكير جدياً في مشاريع وبدائل للطاقة والترشيد الممنهج، خصوصاً أن سوريا عاشت أواخر العام 2018 وخلال الصيف الفائت بضع أزمات، منها أزمة الغاز ومادة المازوت.