في الشعر العربي الحديث والمعاصر أصوات شعرية بارزة تستدعي مواكبة النقد الجادّ لمسارها الإبداعي. ومن هذه الأصوات الشاعر نوري الجرّاح (1956)، الذي صدرت له عن "دار خطوط وظلال" (2021) مختارات شعرية، وهو الشاعر الإنسانيّ التوجّه، في المقدّمة الزاخرة بالمفاهيم النقدية التي وضعها الناقد خلدون الشمعة. ومن هذه المفاهيم أنّ الشعرية التي ينتسب اليها الشاعر نوري الجرّاح، إنما هي شعرية كينونة، وخصام مع الذات، لا مع العالم، وأنّ صفة "القصيدة الحرّة" هي الأنسب، باعتبار شعر الجرّاح ناميا الى "الحداثة الثالثة"، وبالتالي لا يناسب وصف شعره بقصيدة النثر، ما دام أنّ قراءات الشاعر ومصادره هي أغزر وأكثر تنويعا من تلك التي يردها سائر شعراء قصيدة النثر، ولا سيّما شعر تي. أس. إليوت و ووليم بتلر ييتس، والتراث الصوفي والتقليدي على حدّ سواء.
وإلى تقديري للمداخلة النقدية الثرّة للناقد خلدون الشمعة والتي خصّها بعمل الشاعر الجرّاح، وتوّج بها اختياراته، في نوع من التأويل النقدي المبني ، فإني أميل الى تصويب أمرين: أولهما أنّ قصيدة النثر، وان يكن بعض النقد الغربي لا يزال يعتبرها موضع التباس، فإنّ شيوعها اليوم، أوائل القرن الواحد والعشرين، واندراج غالبية مختارات الشاعر في خانتها-ما خلا بعض المقاطع الشعرية ذات تفعيلات من مثل : "أمدّدكِ في ترابِ فكري/لتنهضي/ في جَسَدي/ وتقيمي في كتابي/باسطةً كنخلة الغريبِ/مضيئة كالنّجْمِ إذْ هوى (ص:18)"– يجعلانها نوعًا جديدًا يضاف الى أنواع أدبية قائمة، ثمّ إنّ اعتبارها قالبًا شعريا عاما مصوغًا بأسلوب النثر، تنضوي فيه أشكال لا تحصى من القصائد، لا يوجب ارتباطها بقراءات معيّنة، سواء كانت غربية أو شرقية، للشاعر قبل إنجازه شعره، وإنّما المعوّل عليه هو ما انتهى اليه الشاعر في مدوّنة -بلغة علماء الألسنة اليوم-أعماله الشعرية الغالبة.
التكوين النصي
وأيا يكن الأمر، فإنّ المختارات الشعرية، المقتطفة من أعمال الشاعر الجرّاح، والتي تمتدّ الى ما يقارب المئتي صفحة، هي من الثّراء وتعدد المظاهر اللافتة، وعمق الدلالات ما يستدعي دراسات معمّقة، ويستحيل أن تحيط بها مقالتي هذه. وإنما حسبي أن أشير الى مقولة لنورثروب فراي (Northrop Fry) يعتبر فيها أنّ "كلّ تكوين نصّي إنما هو تناصّ"، وبالتالي فأنّ الشّاعر إذ يستعير نموذجًا أو شخصية أو قناعًا من التراث الملحمي الأسطوري اليوناني، وبالتحديد من الإلياذة غالب الأحيان، أو من الإنجيل والتوراة وابن عربي و"الأرض اليباب" لتي. إس: إليوت أحيانا أخرى، فإنما ليستلّ منها دلالة وأبعادًا افتقدها في الإحالات الواقعية، عملا بالنهج الذي سارت عليه كوكبة من الشعراء العرب، أمثال: بدر شاكر السيّاب، وخليل حاوي، وصلاح عبد الصبور وغيرهم، وليكسب ذاته الكسيرة، المهشّمة بفعل الحروب والاستبداد والطغيان، والهجرة، والموت وسط جماعته ومفردا من دونها، صوتًا أعلى من همس ذاته الشعرية الغارقة في تأمّليتها. لكنّ فرادة الشاعر نوري الجرّاح، في ما تسنّى لي قراءته في عملين أخيرين " لا حرب في طروادة" و"رسائل الى أوديسيوس" والعمل الأخير مختارات من كلّ المجموعات الشعرية السابقة، في الأمور الآتية :
أولا- في تفرّده عن غيره من الشعراء العرب التمّوزيين، ممن ذكرت أعلاه، في أنه لا يرى ضيرا في استخدام ملحمة الإلياذة، وكائناتها، وشخصياتها، وحكاياها، وما يمثّل أو يرمز كلّ منها، ربما بقصد الإيحاء بفداحة ما يعانيه الكائن، ومن ورائه المجتمع، المهجوس بالحرب والسبي والقتل والتهجير والإفناء، وغلبة العبث وانكشاف الأرض عن يباب، نظير ما عاناه الشعب الأثيني في حربه الضروس ضد طروادة. لكنّ الشاعر الجرّاح لا يلبث أن يبدد أمانته لمحمولات الشخصيات الملحمية اليونانية المستعارة أقنعتها، بخلاف ما كان الشعراء التموزيون يقومون به، إذ بعد أن يتلبّس شخصية معيّنة (أوديسيوس مثلا) لا يزال حتى ينكرها، ويورد نقيضها، كاشفا عن قصده الحقيقي من استراتيجية المواربة (الأسلوبية والدلالية)، والمتمثّل بالتصريح المفاجئ بأنه أقرب ما يكون الى مهاجر سوريّ، أو شرق أوسطيّ، وقد انتشل جثة هامدة من البحر، بعد محاولات حثيثة للعبور الى شاطئ أمان له، من جحيم بلاده، يقول: "لستُ أوديسيوس /لأمٍّ/ لستُ اوديسيوس /لأبٍ/ لستُ أوديسيوس /لأختٍ / أنا لستُ أوديسيوس .../أنا أوديسيوس / الميْتُ في باخرة" (ص: 50-51). والأمر نفسه ينطبق على قناع تلماخوس(وهو ابن أوديسيوس ، أو أوليس)، الذي وضعته ذات الشاعر، فلا يلبث أن يتكشّف عن كائن متلاش، مستلب: "ولكن ماذا عنّي؟/لا شاعر،/لا مسرحي، /ولا حتّى روائي فاشل نزلَ إليّ، أنا تلماخوس" (ص:67).
والأمر نفسه ينطبق على شخصية أخرى، أو قناع آخر تلبسته الذات الشاعرة، عنيت به قناع "بروميثيوس" بما يشير الى خلاف مرموزه (الصلابة وقوة الاحتمال، والإصرار على مواجهة الصعاب المتمثلة بالصخرة) كائنا جبانا، مطعونا، ومسموما، وعاجزا عن الانتفاض: "هربتُ/نمتُ/ عثرتُ/ نمتُ أياما/ السمّ في صدغي..".
أما قناع "نرسيس" والذي يمثّل ذاتا متأمّلة في نفسها، فحريّ أن يكشف، حال بوح الذات الناطقة، عن كائن يائس، ومكتف بفتات خبز، يقول: "ما الذي جنيتُ من الرّجاء، ما الذي جنيت/ مرارا نزلت، مرارا عبرت هذه الانفاق/ ورجعت الى ليل...سأحبّ حياتي/ أحبّ صورتي في صوَر.." (ص: 38).
الملحمة النقيضة
ولعلّ في ما طرحه الناقد الشمعة، من أنّ الشاعر الجرّاح يبتدع ما أسماه الملحمة-النقيضة، أو المضادّة، Mok-epic التي سعى شاعرها العامل على محاكاة الملحمة الأصلية، ثمّ عمل على تفريغها من مضمونها الأوّل، صحيح، في ما لو تتبّع القارىء مجمل ملامح الشخصيات ومساردها المتحوّلة سلبيا، كما أشرت، والغاية معروفة: التنبيه الى قدَر الإنسان الفرد، وهشاشة مصيره، وقلّته، و ضآلته حيال العدوان الجاري عليه، وضياعه وتيهانه في موانىء المتوسّط، بعيدا عن أرضِ هجّر منها، ومدينة أحبّها، وأنبياء خرجوا منها، ليخرجوا الإنسان من قوقعته ودونيته. ولا أحسب كل الشخصيات الملحمية والأسطورية الأخرى، المجرّدة بدورها من سمات البطولة، والمستحقة تسمية "الأبطال-السلبيين"، أو ما يدعى بالفرنسية (anti-héros) إلاّ ترجمة تفصيلية للملحمة-النقيضة المشار اليها. ولئن سبق الشاعر الى هذه الاستراتيجية بعض شعراء الحداثة، من مثل خليل حاوي (لعازر عام، 1962) على سبيل المثال، فإنّ الشاعر الجرّاح جعلها استراتيجيته الدلالية الكبرى، تحلّ بديلا لها، في النصف الأخير من أعماله الشعرية (عبر منتخباته) استراتيجية الترميز القريب، أو استراتيجية النفي للإثبات ولا سيما في قصائد مثل : "فتيان سوريون في ظلال الأوكروبول"، و"السوناتة الثالثة"، و"القتيل"، و"لم أكن في دمشق" ، و"كلمات هوميروس الأخيرة" حيث تعلو نبرة الغنائية لتبلغ ذراها، في كلام الشاعر المباشر على مأساة السوريين، والمشارقة، وعلى طيف المدينة الذي يأبى مفارقة خيال الشاعر، وقد صارت الجنان فيها "جحيما، بعد جحيم، وجحيم": "أنا أليعازر الدمشقيّ، خرجتُ من بابِ الفراديس، ووجدتُ الجنانَ تحترقْ" (ص:215)، "أنا أليعازر الطارق بابَ القيامةْ" (ص:216)
ثانيا- ومن المميزات اللافتة في أعمال الجرّاح لغته الشعرية، والتي قد يفرد لها النقاد حيزا خاصا، ومن أهمّها اختيار الشاعر مستوى في اللغة عاليا، لا هو بالنظم الموقّع، أو الشعر الحرّ، ولا هو بالنثر المألوف أو اليومي، وإنما هو مزيج من النثر المنتخبة عباراته من ذوات المعاني أو الإيحاءات المتعددة، ومن التراكيب الحاملة في طيّاتها قدرا من التوقيعات أو التوازنات الداخلية، المغنية عن الشعر ذي التفعيلات الكاملة او الناقصة. وكان الشمعة، في تقديمه مختارات الشاعر ، قد أطلق صفة "الحداثة الثالثة" على تجربة الجرّاح الشعرية والأسلوبية. "هدمتُ الّليلَ/ ومحوتُ/ رأيتُ طيورًا في مطلعٍ، على مقربةٍ من منازلَ تفرّقتْ/ لم أصلْ/ ما الّذي جنيتُ منَ الرّجاءِ ما الّذي جنيتُ" (ص:35).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن هذه المميّزات، ما بات مظهرا أسلوبيا متّبعا عند عدد لا بأس به من شعراء قصيدة النثر، في ما خصّ بنية القصائد، التي وجدتها قائمة على أناشيد ذات مشاهد متدرّجة في تعبيراتها ومنطقها، والمشاهد فيها مرقّمة أرقاما لاتينية للدلالة على التماهي الأسلوبي بملحمة الإلياذة اليونانية المنقسمة أناشيدَ بذاتها. وقد تتعاظم بنية النشيد أو تقلّ وفقا لمحمولاتها في سياق النتاج الشعري ذي المناخ الخاص، في مجموعة شعرية مفردة.
وبالمحصّلة الأخيرة، يمكن القول إنّ المختارات المنتخبة من أعمال الشاعر السوري والمتوسّطي نوري الجرّاح، هي أقرب ما تكون مرثية كبرى لبلاد لم تعد، ولكائن تائه في الدنيا عن أرضه وبلاده ومهوى قلبه وأحلامه، وتوصيف عالي النبرة لمقتلة العصر، والجحيم الحاصل فيها بعد الجنان. حسب الشاعر أن يمدد مدينته في شعره: "أمددكِ في ترابِ فكرتي/ لتنهضي / في جسدي/ وتقيمي في كتابي/ باسقةً كنخلة الغريبِ / مضيئةً كالنّجمِ إذْ هوى" (ص:18).