كانت مذهلة في دقة تفاصيلها، مشاهد الاحتفال بتنصيب الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن على مدخل مبنى الكابيتول الذي يضم السلطتين التشريعيتين، مجلس الشيوخ ومجلس النواب، ومثّل حضور ثلاثة من الرؤساء الخمسة الأحياء، وهم بوش الابن وكلينتون وأوباما، فيما تغيّب كارتر لأسباب خاصة، لكنه تحدث مع بايدن ولم يشارك ترمب، رمزية وطنية مهمة في مسعى منهم إلى احتواء الشروخ الاجتماعية التي عمقتها سنوات الرئيس المنتهية ولايته، الذي مثّل غيابه حالاً استثنائية في تاريخ انتقال الرئاسة، وإن لم تكن الأولى، إذ فعلها لآخر مرة أندرو جونسون العام 1869، بل زاد بأن عقد اجتماعاً أخيراً لحكومته في الوقت نفسه الذي تم فيه تنصيب خلفه أوليس غرانت.
لم تكن مستغربة تصرفات الرئيس ترمب الكاره لتقاليد المؤسسة الأميركية، وجاءت متفقة مع طبيعة شخصيته الرافضة للانضباط والاعتراف بالهزيمة مهما كانت واضحة، وصار غيابه عن حفل التنصيب رغبة كثيرين يعرفون عنه عدم القدرة على الاستماع لأحد غير صوته، وخشية رد فعله في اللحـظات الأخيرة التي تسبق خروج السلطة نهائياً منه إلى خلفه حين يؤدي اليمين الدستورية، ولم يتوقف القلق من تصرفاته أثناء الدقائق التي كان الوافد الجديد إلى المكتب البيضاوي يلقي فيها خطابه للأمة الأميركية والعالم.
لم يكن ترمب رئيساً تقليدياً، فهو لم يحترم قواعد الحكم في واشنطن، وكان يرى في الدستور وقواعد التعامل بين السلطات معوقاً لطموحاته التي وعد الناخبين بها، ولهذا أكثر من استخدام الأوامر التنفيذية التي على الرغم من كونها حقاً دستورياً في الحالات العاجلة والاستثنائية، إلا أنه لم يدرك ضعف إمكان استمرارها مع قدوم رئيس جديد من خلفية اقتصادية وسياسية مختلفة، فتعرقلت جهود إدارته في نقض كل القرارات التي أقرّها الكونغرس في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، ومنح ذلك فرصة لبايدن كي ينقض معظم ما أمر به ترمب، عدا تعيين القضاة الثلاثة الجدد في المحكمة العليا وقانون خفض الضرائب، وربما صارت هي كل ما سيبقى من إرث ترمب الرئاسي.
خلط بين الرغبات والقوانين
خارجياً لم يستطع ترمب، عكس كل من سبقوه، إقامة علاقات شخصية مستقرة مع أي حاكم في العالم، فقد اتسم تعامله معهم بالغرور والاستهتار مستنداً إلى قوة الموقع، كما كانت علاقته بزعماء الكونغرس في الحزبين بعيدة من النمط التقليدي الذي يسمح بعقد صفقات سياسية لتمرير القوانين التي يرغب في أن تصبح إنجازات دائمة لعهده، على الرغم من أنه كثّف مساعيه طوال سنواته الأربع في البيت الأبيض لمحو كل القوانين التاريخية التي تركها سلفه الرئيس أوباما، مثل نظام التأمين الصحي الشامل الذي عُرف بـ "Obama Care"، والانضمام لاتفاق باريس للتغير المناخي.
عاش العالم والناخب الأميركي أسابيع مقلقة وعصيبة بدأت قبل عملية الانتهاء من التصويت الشعبي في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، إذ حفّز الرئيس ترمب أنصاره خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات للاعتراض على إجراءاتها، بخاصة التي تجري بالبريد، مثيراً شكوكاً رفعت سقف آمالهم في تعديل النتائج التي كان يجري الإعلان عنها في المقاطعات والمدن والولايات، واستمر في محاولاته عبر التقاضي لدى كل درجات المحاكم، حتى وصل بمزاعمه إلى المحكمة العليا التي تصور بسذاجة أن تعييناته فيها ستساعده في الدفاع عن دعاويه غير الموثقة، متناسياً أن الأغلبية المحافظة (ستة محافظين وثلاثة ليبراليين)، لا يمكنها تجاوز الدستور في أحكامها حول القضايا المتعلقة بقوانين الانتخابات أو ذات الطبيعة السياسية، وكان ذلك دليلاً آخر على الخلط الذي تصور ترمب أنه قادر عليه في عمل المؤسسة، بين الرغبة الشخصية وأحكام الدستور والقوانين.
التعقيد المدبر
في ساعات حكمه الأخيرة، تعمّد الرئيس ترمب إصدار قرارات كان جلياً أنها لم تكن بنيّة الرغبة في تفعيلها، وإنما لتعقيد المشهد داخلياً وخارجياً أمام الإدارة الجديدة، وإلا فليس من المعقول ولا المنطقي أن تحسم إدارته قضايا ذات تأثيرات دولية معقدة، ثم تعلن عنها في وقت أصبحت فيه عاجزة عن متابعتها وفرضها، كما كانت تدرك تماماً أن القادمين الجدد إلى البيت الأبيض لهم مواقف مناقضة معلنة تجاهها، وستضعهم أمام اختبارات حقيقية تبيّن أسلوب عملهم وتعاطيهم إزاء الوعود الانتخابية التي أغدقوها على الناخبين.
عانى القادة داخل الولايات المتحدة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي خلال السنوات الأربع الماضية، وتكفي مشاهدة تساقط مؤيديه الشرسين الذين دعموه خلال تلك الفترة، فقد رفض وزير العدل ويليام بار إقحام نفسه ووزارته في القضايا التي كان ترمب يصرّ على تمريرها عبره، ثم جاء دور الزعيم السابق للأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ جون ماكونيل الذي أقرّ بهزيمة حزبه، وأخيراً نائبه مايك بنس الذي قاوم ورفض كل دعوات تحريض رئيسه لتعطيل الجلسة المشتركة لمجلسي الكونغرس، والمخصصة لاعتماد نتيجة المجمعات الانتخابية في الولايات المختلفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الخطوات تدل عن الضيق الذي سيطر على قادة الحزب الجمهوري والمؤسسة في واشنطن من تصرفات رئيس لم يكن يقدر قيمة الدستور ونصوصه، ولم يضع اعتباراً للتقاليد والأعراف التي طالما كان قادراً على كسرها والتحايل والالتفاف عليها، وعانى الزعماء الأجانب من أسلوبه المتعجرف حدّ تقبل التقريع والتهديد والوعيد.
محاولة إسكات الصحافيين
ستظل فترة حكم ترمب عالقة في الأذهان بصراعاته مع الصحافة التي لم تمنحه فرصة للسكينة والهدوء منذ يومه الأول، ودخلت معه في معركة لم يتوقف غبارها، وعلى الرغم من محاولاته الحديث المباشر مع أكبر صحيفتين تصدرتا معارضته وانتقاده، وهما نيويورك تايمز وواشنطن بوست، إلا أنه باء بالفشل، وظلتا تلاحقان كل تحركاته وتحصيان أنفاسه، وخرج مراراً عن طوره متهكماً ومحاولاً إسكات الصحافيين خلال مؤتمراته الصحافية النادرة إلا أنه لم يفلح، فتحول إلى استخدام "تويتر" ليلاً ونهاراً لإبلاغ مؤيديه بقناعاته والهجوم على معارضيه، وزاد عندما استخدمه لطرد موظفيه قبل إبلاغهم رسمياً بقراراته.
سيبقى عالقاً في الأذهان كذلك الأسلوب الذي اختاره ترمب لمغادرة البيت الأبيض وواشنطن، وستذكر العالم مشاهد أنصاره يستخدمون العنف بغية تعطيل الجلسة التي من المفترض أن تكون روتينية.
أنا على يقين أن نتائج ليلة السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 ستترك أثراً سلبياً على مستقبله السياسي داخل الحزب الجمهوري الذي سيستفيد من رحيل رجل زعزع قواعد الحزب حتى تسبب في خسارة ولايات كانت جمهورية معظم تاريخها، فقد كان ترمب متمرداً على كل ما تفعله وتقوله وتصنعه واشنطن، لكنها تمكنت في نهاية المطاف من أن تضع حداً لمغامراته وطموحاته.