لم يكن هناك توافق في المزاج بين برتولد بريخت وفن السينما. ولم يكن هذا لأن سيد المسرح الملحمي خلال النصف الأول وبعده قليلاً من القرن العشرين كان يكره الفن السابع، ولا لأن مسرحياته لم تكن تلائم ذلك الفن. كان السبب أبسط من ذلك. كل المحاولات التي جرت لتحقيق أفلام سينمائية مقتبسة من نصوص بريخت المسرحية انتهت إلى الفشل، بما في ذلك الفيلم الذي أشرف عليه بريخت بنفسه "كوهل فامب". من هنا يبدو السؤال مشروعاً عما جعل فيلماً حُقق عام 1955 يعرض فقط عام 1960، أي بعد رحيل بريخت (1956) عن عالمنا، في اقتباس عن واحدة من أشهر مسرحياته "المعلم بونتيلا وتابعه ماتي"، يبدو استثنائياً حتى ولو أن بريخت الذي شاهده في عرض خاص قبل رحيله وصفه بأنه عمل يشبه "هزليات الصالونات" لفرط ما اقتطع المنتجون من حواراته المحملة بالمعاني الاجتماعية والطبقية.
الرجل الذي أنقذه بريخت
مع ذلك حين عرض الفيلم جماهيرياً، كان ثمة من تساءل بصورة جدية، ترى لو كان بريخت حياً بيننا، ربما كان سيغير رأيه ليقول أخيراً، إن السينما أوفته حقه. ذلك أن كثراً من النقاد اعتبروا أن بريخت لم يكن منصفاً في حق المخرج الذي كان يتطابق معه بشخصيته وأفكاره ونظرته إلى العالم وحسه النقدي ومرحه، ناهيك باهتمامه بدور الفن في حياة المجتمع. ومن هنا إذا كان هذا المخرج قد حصد ضروب فشل غير متوقعة في معظم أفلامه التي حققها طوال مسار سينمائي طويل، وينتمي، كما سوف نرى، إلى بداوة حقيقية تليق بكبار السينمائيين، فإنه تمكن هنا بالاستناد إلى بريخت تحديداً، من أن يحقق أفضل فيلم في تاريخه.
من نتحدث عنه هو السينمائي البرازيلي ألبرتو كافالكانتي الذي حقق هذا الفيلم في النمسا، بعدما ضاقت به السبل في وطنه البرازيل كما في فرنسا التي التجأ إليها وحقق فيها عديداً من الأفلام، إضافة إلى أنها كانت البلد الوحيد الذي أمن له مكانة نقدية وملاذاً كريماً، دون أن يمكنه من تحقيق أي من أحلامه السينمائية. فكانت النمسا من أعطته تلك الفرصة دون أن تمكنه من تكرار التجربة على أية حال. بل حتى دون أن تتيح له حضور التصوير إذ كان موضوعاً على القائمة السوداء فيها!
بين السيد والخادم
المهم أن كافالكانتي حقق في النمسا ما كان عجز عن تحقيقه في أي مكان آخر، وأعطى بريخت ممراً إلى السينما من المؤسف أن هذا الأخير لم يعش ليمر به. ناهيك بأنه إذ خلص "المعلم بونتيلا وتابعه ماتي" من خصائصها الأيديولوجية أسبغ عليها أبعاداً شابلنية من اللافت أن بريخت نفسه لم يلحظها! ومن هنا يبدو طريفاً اليوم هذا الفيلم الذي يتناول حكاية السيد بونتيلا مالك الأراضي في فنلندا الذي لا يجد غير خادمه ماتي يسر إليه بمكنونات نفسه، وعدم رغبته في أن تقترن ابنته إيفا بالدبلوماسي الذي يتقدم لخطبتها، طمعاً في مهرها العقاري كما يرى بونتيلا، بينما نعرف نحن المشاهدين أن إيفا تتطلع إلى الارتباط بماتي نفسه. وفي نهاية الأمر يتمكن بونتيلا من طرد الخطيب الدبلوماسي مستبدلاً إياه بالخادم في لحظة يكون فيها غائباً عن الإدراك لكثرة ما تناول من مشروبات. وينتهي الأمر إذ يفيق بونتيلا من شربه، إلى طرده ماتي شر طردة!!
مؤسس "سينما نوفو"
هذا هو إذاً، الموضوع "البريختي" الذي طلع منه كافالكانتي بذلك الفيلم الذي سيحيّيه النقد بوصفه عمله الأفضل. وسيظل كافلكانتي حتى رحيله عام 1982 في ريو دي جانيرو - البرازيل، يتساءل لماذا لم يقيض له أن يعيد الكرة مع نص آخر لبريخت. وربما كان الرجل محقاً في تفكيره هو الذي كان بالكاد يذكره أحد في بلده حين مات. فهو حين رحل عن عالمنا كان عجوزاً في الخامسة والثمانين، مريضاً، يجتر ذكرياته.
ومع هذا فإنه ببريخت أو من دونه، لم يكن نكرة. فهو، إضافة إلى كونه المؤسس الأساس والحقيقي لما سمي خلال السبعينيات "سينما نوفو"، أي السينما البرازيلية الجديدة، عُرف خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية بكونه إلى جانب الإسباني لويس بونيال، واحداً من أكثر السينمائيين الذين فهموا مبدأ البداوة في فن السينما. وأن هذا الفن السابع، إما أن يكون كوزموبوليتيا عالمياً، أو لا يكون. من هنا حين يؤتى على ذكر ألبرتو كافالكانتي، يقال دائماً في معرض تعريفه "المخرج البرازيلي العالمي" حيث أن صفة عالمي هنا لا تتخذ البعد التفخيمي المعهود في ألقابنا العربية، بل بعداً تحديدياً واقعياً.
هناك في أوروبا
ولد ألبرتو كافالكانتي في البرازيل في عام 1897، وهناك تلقى دراسته الابتدائية ثم الثانوية، قبل أن يكتشف ميله إلى الكتابة ثم إلى السينما. وهذا الميل قاده ما أن بلغ سن الشباب واكتشف أن السينما الواقعية الحقيقية التي يحبها، تصنع... "هناك في أوروبا" ، حسب ما يقول عنوان واحد من مقالاته المبكرة، قاده للتوجه إلى فرنسا وإنجلترا، حيث أمضى معظم سنوات العشرينيات والثلاثينيات، مساعداً للإخراج وتقنياً أول الأمر، ثم مخرجاً لأفلام تجريبية، ذات بعد سوريالي، بعد ذلك. والغريب أن أفلامه الأولى، على الرغم من تجريبيتها، كانت ذات أبعاد شعبية تستلهم حياة الناس وتنقلها إلى الشاشة عبر النظرة الإبداعية للمخرج، التي بدت في ذلك الحين متأثرة شكلياً، بالسوريالية. ويمكن أن نذكر من أفلام كافالكانتي الأولى، "لا شيء سوى ساعات"، و"ذات القبعة الحمراء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"دقة قديمة"
في العام 1934 انضم كافالكانتي في لندن إلى جماعة من السينمائيين التسجيليين كانت متحلقة من حول جون غريرسون، أحد عمالقة السينما التسجيلية في العالم. وأسهم هناك في إنتاج عديد من الأفلام ومن بينها "رعد الليل" و"إننا نعيش في عالمين". وفي بداية الأربعينيات، انتقل إلى العمل في استديوهات إيلنغ اللندنية حيث حقق فيلماً قصيراً بعنوان "في قلب الليل" ثم "جعلوني هارباً" في العام 1947، وفي العام 1949، وإذ كان كافالكانتي، بات متمكناً من فنه، واثقاً أن في إمكانه الآن أن يسهم في نهضة السينما في بلاده، عاد إلى البرازيل حيث عمل أولاً منتجاً في شركة "فيراكروز" التي ستنتج أولى الأفلام الجدية البرازيلية في ذلك الحين. بعد ذلك حقق فيلماً طويلاً بعنوان "أغنية البحر" 1954 كان له من الصدى في أوروبا - والفشل في البرازيل - ما دفع كافالكانتي للعودة إلى أوروبا، حيث حقق للسينما ذلك الفيلم الذي سيظل واحداً من أشهر أفلامه، اقتباساً لمسرحية بريخت "المعلم بونتيلا وتابعه ماتي" (1956) باللغة الألمانية وصوره في النمسا. في العامين التاليين انتقل إلى إيطاليا ليحقق فيلماً - سينكره بعد ذلك - عنوانه "أعراس البندقية" 1958. غير أن الفشل الذي حصده هذا الفيلم الأخير في زمن كان فيه كافالكانتي قد أضحى "دقة قديمة"، وضع حداً لمساره السينمائي.
التعليم عن طريق الذكريات!
كل ما في الأمر أنه في السنوات التالية انتقل إلى إنجلترا، حيث كلف تحقيق أفلام للتلفزة، كشفت عن أنه لم يعد قادراً على أي عطاء جديد. بالنسبة إلى النقاد كان "سينمائي الحرية" هذا قد انتهى... يجب أن يكرم الآن ويوضع في المتحف. وكانت تلك هي الفترة التي تلقفه فيها الأميركيون وبدأوا يكرمونه بشكل ملفت، لا سيما حين عرضت عليه جامعة لوس أنجليس "UCLA" أن يدرّس السينما فيها. فرحب بالأمر وبدأ في العام 1975 مساراً جديداً كأستاذ لفن السينما. غير أن أسلوبه التعليمي كان يعتمد على ذكرياته الشخصية أكثر مما يعتمد على أية بحوث جدية أو نظريات جديدة. وهكذا راح الطلاب ينصرفون عنه بالتدريج. أما هو فعاد مرة أخرى إلى البرازيل مريضاً محطماً، حيث راح ينتظر نهايته التي ما لبثت أن حلت في العام 1982، لتنهي معها مساراً سينمائياً عالمياً كان له مجده الكبير ذات يوم.