لا تزال ارتدادات تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، الخاص بالذاكرة بين الجزائر وفرنسا، متواصلة على الجهة الجزائرية، بشكل تبدو أنها مرشحة لإحداث تصدعات في العلاقات بين البلدين. وجاء رد منظمة المحاربين الجزائريين وتحرك البرلمانيين والمجتمع المدني والأكاديميين، ليؤكد صعوبة طيّ الملف.
تحرك برلماني
وفي وقت تلتزم الرئاسة والحكومة الصمت حيال بيان الإيليزيه الذي رافق تسلّم تقرير ستورا، أعلن البرلماني كمال بلعربي انطلاق الحملة الشعبية لسنّ قانون تجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر خلال الفترة بين عامَي 1830- 1962، وأطلق استمارة إلكترونية من أجل جمع توقيعات المواطنين تتضمن مطالبة البرلمان بغرفتَيه بسنّ القانون.
وأشار اقتراح القانون إلى الجرائم التي اقترفتها فرنسا من مجازر وإبادة وتجويع وتهجير ونفي وتجهيل ومساس بهوية الشعب، وصولاً إلى مخلفات التجارب النووية في الصحراء الجزائرية التي استمرت في فترة ما بعد الاستقلال عام 1962، وأيضاً الألغام المزروعة على الحدود الشرقية والغربية، التي تواصل حصد الأرواح.
وبينما يستهدف الاقتراح الدولة الفرنسية ويطالبها بالاعتراف بجرائمها والاعتذار عنها، تضمنت مواده نصوصاً تتعلق بتحديد هدف القانون، ثم "تحميل فرنسا مسؤولية كل الجرائم التي ارتكبتها جيوشها بحق الشعب الجزائري خلال فترة الاحتلال، وثالثاً تحديد الجرائم في الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وتعتبر المادة الرابعة أن مطالبة باريس بالاعتراف بجرائمها حق مشروع للجزائريين غير قابل للتنازل، وتوضح الخامسة أن الجرائم المذكورة في المادة 3 لا تسقط بالتقادم".
الإرادة الشعبية في القمة دائماً؟
وتعليقاً على خطوة بلعربي، رأى الباحث في علم الاجتماع السياسي أسامة لبيد، أنها "إيجابية جداً، وهي مبادرة بطلب من الشعب"، داعياً "كل الفاعلين من نقابات ومنظمات إلى التجاوب مع المسعى عبر الدعم والمساندة، ما يشكل رداً قوياً على كل مَن ادّعى بأن تجريم الاستعمار الفرنسي لا يحتاج إلى نص قانوني". وأشار إلى أنه "من شأن الخطوة تفعيل مشروع القانون داخل البرلمان، وذلك يعتبر تأكيداً على أن الشعب ليس على استعداد للتنازل عن تجريم الاستعمار الفرنسي".
وشدد لبيد على أنه "إذا تكاتفت الجهود من دون التراجع إلى الوراء مثلما حدث في السنوات السابقة، فإننا ننتظر نتائج إيجابية، على الرغم من أن المأمورية ليست سهلة لأن فرنسا فاعل قوي في المجتمع الدولي وداخل البرلمان الأوروبي والمحاكم الدولية". وقال "إذا توفرت الإرادة السياسية والشعبية، فإن كل شيء يصبح ممكناً"، غير أنه لاحظ أن "الإرادة الشعبية دائماً في القمة بعكس الإرادة السياسية التي تكون أحياناً منعدمة، الأمر الذي يجعل من المبادرات الشعبية والبرلمانية، مجرد نشاطات ومحاولات لملء الفراغ، وأيضاً مجرد حملة انتخابية مسبقة لبعض السياسيين، لكن أظن أن الشعب أصبح فطناً، على عكس السنوات الماضية".
ليست المرة الأولى
وليست هذه المرة الأولى التي يتحرك فيها نواب جزائريون في هذا الاتجاه، إذ قدّم في فبراير (شباط) 2019، 50 برلمانياً مسودة قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي والمطالبة باعترافه بالجرائم وتقديم الاعتذار والتعويضات المناسبة، لكنها وعلى الرغم من التجاوب الكبير الذي لقيته، بقيت حبيسة أدراج البرلمان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويُعتبر "تجريم الاستعمار الفرنسي" أحد أهم "العناوين" التي ترفعها أطراف جزائرية في مناسبات عدة، غير أن الواقع يكشف عن فشل كل المحاولات و"بقاء دار لقمان على حالها"، ما أدخل الشكوك في وجود "أسرار" وراء ملف الاعتراف والاعتذار. وكان برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي السابق في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، قال صراحةً في خضم حرب تصريحات بين الجزائر وباريس آنذاك، أن "انتقال العلاقات الفرنسية - الجزائرية إلى مستويات راقية مرتبط بذهاب جيل الثورة التحريرية من الجزائريين والفرنسيين".
قبول ولكن
وتحاول الجزائر اللعب على خط "الجرائم الفرنسية" من أجل تحقيق مصالح أو منع أخرى أو الحصول على وعود انتخابية، فهي تملك أيضاً جالية قوية هي الأكبر في فرنسا. وأعلن رئيس البرلمان سليمان شنين في يونيو (حزيران) الماضي، خلال جلسة لمناقشة مسودة قانون يتضمن اعتماد الثامن من مايو (أيار) من كل عام يوماً للذاكرة، استذكاراً لمجازر ارتكبتها فرنسا الاستعمارية عام 1945، أن "تجريم الاستعمار مطلب شعبي وقرار سيادي، لا يعني النواب فقط وإنما كل الشرفاء وهم كثيرون، مقابل الذين يعطّلونه وهم قليلون".
وأشار وزير المجاهدين (قدامى المحاربين) الطيب زيتوني، إلى أن "تجريم الاستعمار مطلب الوطنيين والمخلصين، ومن الضروري اعتراف فرنسا واعتذارها عن جرائمها المرتكَبة في الجزائر"، مبرزاً أن هذا الطلب "ليس موجّهاً ضد الشعب الفرنسي، وإنما ضد الاستعمار الفرنسي في الأصل".
رد رسمي باستحياء
في المقابل، يبدو أن السلطة الجزائرية فضلت الرد على تقرير رد الرئاسة الفرنسية وتقرير المؤرخ بنجامين ستورا، بعد هدوء "العاصفة"، عبر منظمة "قدامى المحاربين" التي أعلن أمينها العام بالنيابة محند واعمر بن الحاج أن التقرير الذي أعدّه المؤرخ ستورا، أغفل الجرائم الاستعمارية وأراد اختزال ملف الذاكرة في إطار احتفال رمزي لطيّ صفحة الاعتراف والاعتذار، مشيراً إلى أن "الجزائريين لا ينتظرون من الدولة الفرنسية تعويضاً مادياً مقابل الملايين من الأرواح البشرية، بل يطالبونها بالاعتراف بجرائمها ضد الإنسانية". وشدد على أن "استبعاد أي إمكانية لاعتذار فرنسا الرسمية عن الجرائم الاستعمارية، يقوّض محاولات التصالح مع الذاكرة".
ورأى بن الحاج أن المؤرخ الفرنسي "فُرض عليه ما كتب لأغراض سياسية بحتة"، مضيفاً أن "الفرنسيين كانوا دائماً يتناولون هذا الموضوع بأهداف مستترة". وقال إن "الرئيس (إيمانويل) ماكرون يهدف إلى استعمال ملف الذاكرة كورقة رابحة في الانتخابات الرئاسية المقبلة".
في السياق، عبّر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية مومن عوير عن اعتقاده بأن "رد منظمة قدامى المحاربين كان منتظراً، وهو أقل شيء يمكن أن تفعله المنظمة، لسان حال كل الشعب الجزائري الرافض لمثل هذا التقرير الذي أُريد به طمس حقائق تاريخية ولم يذكر جرائم الاستعمار الفرنسي طيلة 132 سنة ولا إشارة إلى الاعتذار"، مرجحاً أن تأخّر الرد "له علاقة بانتظار الضوء الأخضر من السلطات العليا في البلاد".
النخبة تدخل على الخط
من جهة أخرى، يستعد مؤرخون وحقوقيون جزائريون لمقاضاة فرنسا أمام المحاكم الدولية، على خلفية الجرائم التي ارتكبتها في الحقبة الاستعمارية، من خلال جمع ملفات 17 قضية حتى الآن، تتعلق بـاغتيالات وعمليات سرقة وانتهاكات. وقال أحد أعضاء المبادرة، أستاذ التاريخ عبد القادر بوعقادة، إن تقرير المؤرخ بنجامين ستورا "مغالط ومزوّر".