سينما المخرج الفرنسي لوك بوسون تقوم على التنوع الشديد. طوال 40 سنة من الإخراج، أنجز أعمالاً تاريخية وخيالية علمية وأفلام حركة وكوميديات خفيفة. لكن "السيدة" (أو "اللايدي") يحتل مكانة خاصة في سجلّه السينمائي الذي طغى عليه في السنوات الأخيرة الهم التجاري. هذا الفيلم الإشكالي الذي يحتاج إلى قراءة جديدة اليوم، عُرض للمرة الأولى في العام 2011 (مهرجان تورونتو السينمائي). ومن المفيد العودة إليه حالياً في ضوء الانقلاب العسكري الذي حدث في ميانمار قبل أيام وأدى إلى اعتقال رئيسة حكومتها أونغ سان سو تشي، الشخصية التي يتناول بوسون سيرتها في هذا العمل والملقبة بـ"السيدة". ففي مطلع الشهر الجاري أوقف الجيش أونغ سان سو تشي ثم أعلن أن نتائج الانتخابات العامة التي أجريت في أكتوبر (تشرين الثاني) من العام الماضي كانت مزورة.
هذه الزعيمة كانت تسلّمت السلطة في بلادها في عام 2016، بعد 15 سنة أمضتها في الإقامة الجبرية تحت المراقبة. على مدار حياتها، قورنت بمانديلا وغاندي، يوم وقفت ضد بطش العسكر لتدعم الانتفاضة في عام 1988، حين كانت في الثالثة والأربعين من عمرها. إلا أن ظنّ العالم فيها خاب، بعدما اتُهمت باضهطاد الأقليات العرقية والدينية، لا سيما المسلمين الروهينغا، والتحريض على قتلهم وعدم التحرك من أجل حمايتهم بحجة أنهم يهددون هوية البلاد البوذية. هذا كله جعل المجتمع الدولي يتراجع عن دعمها ويسجّل اعتراضه على التزامها الصمت تجاه ما يحدث في بلادها. هي التي كانت ضحية الظلم عادت وصارت ظالمة ما إن أتيحت لها الفرصة. واليوم، وقعت مجدداً في يد الجيش.
إذاً، تغييرات كبيرة طرأت على رواية الفيلم بعد عرضه قبل عقد من الزمن. معطيات جديدة ظهرت وحقائق انكشفت، وبعضها قد ينسف كلّ ما يقوله بوسون عن السيدة. فكيف يمكن تجاهل هذا كله اليوم ونحن نشاهده؟ هل يجب الحكم عليه كعمل فنّي صرف له ما له من ميزات وعيوب أو كوثيقة تاريخية ناقصة؟ من الصعب الإجابة عن سؤال كهذا.
تصوير سري في تايلاند
صوّر بوسون "السيدة" الذي يُعد إنتاجاً مشتركاً بين فرنسا وبريطانيا باللغة الإنجليزية، وتم التقاط المَشاهد في باريس وأكسفورد وشمال تايلاند. كعادته، لم يبخل في توفير الإمكانات، لا بل جنّد الكثير منها لإغواء جمهور دولي طمح إليه مستفيداً من مكانة الشخصية في قلوب الناس. محاولة الإغواء هذه نتجت منها جدارية رسم عليها بوسون بريشته الرومنسية واقعاً سياسياً وإنسانياً يختلط فيه العام بالخاص، والعمل السياسي بالشأن الشخصي.
التصوير في تايلاند جرى بطريقة سرية للغاية. لم يتم تسريب أي معلومات في الصحافة. كان بوسون يخشى أن تضغط حكومة ميانمار على السلطات التايلاندية لطرد طاقم العمل. أثناء التصوير كان بوسون يتنكّر كي لا يعرفه أحد. في إحدى المقابلات، يروي: "ذهبتُ إلى تايلاند بتأشيرة كنت طلبتها قبل عام، وكان في حوزتي كاميرا رقمية صغيرة تلتقط صوراً رائعة. كنت أرتدي الشورت والشبشب. فصوّرتُ المَشاهد الخلفية التي أسقطنا عليها لاحقاً الممثّلين عبر تقنية معينة مشغولة بالكمبيوتر. طلبتُ إلى الجميع أن يبقوا حذرين في شأن هذا المشروع، حتى لا يعلم قادة ميانمار بوجودنا في تايلاند. في الغرب، كان تسرّب كلّ شيء في الصحافة، لكن في الشرق لا يمكن لهذا أن يحدث. إنها مسألة فلسفة واحترام".
السيناريو الذي ألفته ريبيكّا فراين للفيلم يروي الآتي: أونغ سان سو سياسية معارضة للمجلس العسكري. في عام 1988، تغادر لندن وعائلتها للعودة إلى ميانمار ومواصلة التزامها السياسي. لها رغبة واحدة: تصدّر المشهد السياسي في ميانمار وقيادة معركة سياسية غير عنفية انتصاراً لحرية التعبير والديمقراطية في بلاد ابتلت بالديكتاتورية العسكرية القمعية والدموية. هدف أونغ سان سو هو مواصلة مسيرة والدها النضالي. إلا أنها ستواجه معضلة صعبة على المستوى الشخصي، جراء حيرتها بين العودة إلى إنجلترا والبقاء جنب رجل حياتها، مايكل أريس (ديفيد ثيوليس)، المصاب بسرطان البروستات، وبين مواصلة الكفاح من أجل الديمقراطية.
الإبنة وجائزة نوبل
صحيح أن "السيدة" يبتعد عن الأسلوب غير الواقعي لبوسون في تصوير القصص الخيالية، لكنه يتشارك مع الكثير من أفلامه في منح المرأة الصدارة. لطالما كان لبوسون هذه النزعة لمناصرة المرأة في أعماله التي تحمل سلسلة مواقف تقدمية. فمن "نيكيتّا" و"ليون" إلى "العنصر الخامس" و"جانّ دارك" مروراً بـ"لوسي" و"أنّا"، أعطى بوسون للمرأة موقعاً بارزاً في سينماه وصوّر النساء في أدوار لم نعتد أن نراهن فيها. نساء ثائرات، قويات، غير مساومات على حقوقهن، شجاعات، قاسيات... فكان من الطبيعي والحال هذه أن يهتم بسيرة إبنة الثائر القومي وبطل الاستقلال، الأب المؤسس لميانمار المعاصرة… هذه الإبنة التي أصبحت بدورها زعيمة ونالت جائزة نوبل للسلام عام 1991 من أجل دعمها للنضال غير العنفي.
يحملنا "لسيدة" إلى تفاصيل من حياة أونغ سان لنعي معنى نضالها. واضح جداً أن بوسون يأخذها كنموذج، كمثال يحتذى به، كما فعل سابقاً مع جانّ دارك. يصوّرها من دون أي مسافة، مستخدماً كلّ المؤثرات البصرية والصوتية، من تبطيء للصورة إلى موسيقى تفخيمية لتوثيق شجاعتها وعظمتها واستثنائيتها وتضحياتها. كلّ هذا الأسلوب ليس سوى لخدمة خطاب المخرج. هذا السعي للثناء على تجربتها يصل أحياناً إلى حد "التقديس"، علماً أن السيدة نفسها لم تكن ترى أنها تستحق هذا كله، فهي قالت في إحدى مقابلاتها: "أنا سياسية، لست مارغريت تاتشر ولكني لستُ أيضاً الأم تيريزا".
يشدد الفيلم على الحبّ غير المشروط (إذا صح اعتباره كذلك) الذي كان يكنّه زوج أونغ سان لها، وبذلك أعطى للنصّ السينمائي بُعداً رومانسياً في قلب النضال من أجل الحرية. هذا من الأسباب التي جعلت الفيلم يخرج من نطاق السيرة التقليدية إلى منطقة أوسع وأكثر حميمية حيث دور الذاكرة غاية في الأهمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أونغ سان هنا شخصية مطلقة وصلبة لا تشوبها شائبة. وميشيل يوه التي تلعب دورها جاءت إليها بالكثير من تلك الصرامة التي اشتهرت بها. مع ذلك يقع بوسون في الميلودراما، ذلك أنه يتمحور على العائلة، والعائلة خزان عواطف جيّاشة. لا نجد النضال السياسي ضد النظام إلا في خلفية المشهد، وأحياناً ليس أكثر من ديكور يتصارع فيه الأشرار. من كل ذلك الواقع السياسي الذي كان سائداً في تلك المرحلة، يستعرض السيناريو بعضاً من أشهر الفصول، مختزلاً كل شيء بها. هذا كله يمنع الفيلم من الغوص عميقاً في المناطق الغامضة من شخصية أونغ سان لفهم تحولاتها الداخلية. أكثر من ناقد استغرب لماذا المخرج لا يطرح تلك الأسئلة المتعلقة بالمصادر التي استمدت منها هذه السيدة قوتها. أسئلة قد لا يحتاجها المُشاهد بالضرورة، ولكن كون الفيلم غير منشغل بها فذلك يضعّفه.
في "السيدة" نحن حيال فيلم من النوع المتحمّس الذي يلقي بنفسه على الشخصية الرئيسية. ولا يتوانى عن تناسي التعقيدات السياسية والمصالح المرتبطة بها، من أجل مقاربة إنسانية للموضوع تصل إلى حد الدعاية في بعض الأحيان.