جدران متهالكة ومساحة لا تتجاوز الثلاثة أمتار، كثير من المعدات الطاعنة في القدم، لا شيء تغيّر تقريبا منذ أكثر من مئة عام، الوضع على حاله، نفس التفاصيل والصور، تغيرت فقط الوجوه والأسماء. شارع المعز لدين الله الفاطمي أحد أبرز المناطق الأثرية بالقاهرة القديمة، يبدو حارسا أمينا على كل ما هو تراثي وأثري، ومعه أيضا ورشة يقال عليها اختصارا "يسري بتاع الطرابيش"، هكذا يعرفها أهل المنطقة. لم نخبركم أن الورشة النادرة لصناعة الطرابيش لفرط بساطتها لا تحمل لافتة، لكن مع ذلك لا أحد يخطئها!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جولة في ورشة تقليدية لصناعة الطرابيش
الورشة تبدو متهالكة تماما، أقمشة متراكمة ومعدات بدائية، حياة منفصلة عما يدور في الخارج، هكذا كان يعمل القدماء. الأسرة بكاملها تعمل بجدّ واجتهاد من دون الالتفات إلى شعارات من نوعية أنهم يحافظون على مهنة تكاد أن تندثر، كل ما يهمهم تدبير معيشتهم والحفاظ على تميزهم بمهنة روادها باتوا يعدون على أصابع اليدين. الأمر كما يحكيه لـ"اندبندنت عربية" صاحب الورشة الحالي، "عم جمال"ـ 63 عاما، والذي ورثها عن جدوده "أنا بشتغل مهنة أجدادي وأبي، وولادي وأحفادي سوف يستكملون المشوار من بعدي"، الأمر لا يحتاج إلى محاولات للتأكد فقد كان يجلس قبالته ابنته وحفيده منهمكين، كل ينجز مهمة من مرحلة تصنيع الطربوش، حيث أن كل قطعة تستغرق ثلاث ساعات أو أكثر.
إذا منذ الدقائق الأولى، ينفي صاحب الورشة المعتز بمهنته أقاويل وادعاءات أن مهنته في سبيلها إلى الانقراض، حيث يشدد على أنه حريص على أن يعلّم باقي أجيال الأسرة "الصنعة" غير ملتفت إلى دعوات تصفية الورشة وتحويل نشاطه إلى "بازار" لبيع المقتنيات، فالطرابيش، كما يشدد هو، لها زبونها الذي يطلبها من على بعد آلاف الأميال.
ورشة صغيرة تصدّر منتجاتها إلى الخارج
استكمل "عم جمال" حديثه لـ"اندبندنت عربية"، وهو ينهي العمل على طربوش أحمر أنيق، ليؤكد أن عليه أن ينجز طلبيّته الجديدة سريعا، حيث ستسافر إلى المغرب، وتابع "نصدّر إلى كثير من الدول، والطربوش تحديدا ما يزال لديه من يرتديه، ونحن نتعامل بشكل أكبر مع المغرب والأردن، حيث الكثيرون ما يزالون يرتدونه هناك بأشكاله وتصميماته المتعددة، ونحن لدينا سمعة طيبة هناك نظرا لجودة منتجنا".
رغم المظاهر التقليدية لأدوات صناعة الطربوش، ولكن التكنولوجيا حاضرة أيضا ولو بشكل غير مباشر، يفسّر السيد جمال الأمر "بصفتي صاحب ورشة رئيسية فأنا أقوم بما أكلف به من طلبيات، وأوزّع على المحلات في الأسواق، وأحافظ على عملي بطريقته المعهودة المتوارثة، ولكن التكنولوجيا تدخلت في مرحلة بسيطة من عملي، تتلخص في عرض المنتجات مصورة على الزبائن عن طريق تطبيق (واتسآب) على الهاتف، فأنا أتفق على الطلبيات سواء داخل مصر أو خارجها عن طريق التطبيق الذي سهّل الأمور علينا كثيرا".
الطربوش... هل ينقرض يوما؟
من المنطقي أن أي مكان عمل حينما يصبح عبئا على صاحبه ومصدرا لخسارته المادية سوف يبادر المسؤول به إلى غلق أبوابه، فمهما تحمل وقاوم سوف يأتي وقت ويقرر أن ينهي نزيف الخسارة، وبالتالي فإن استمرار الورشة بعد كل هذه السنوات يعني أن العائد المادي ما يزال مجزيا، على الرغم من أن ثمن الطربوش الواحد يتراوح من عشرة إلى سبعين جنيها مصريا (ما يساوي 60 سنتا إلى أربعة دولارات أميركية تقريبا)، بحسب الخامة، سواء كانت "خوص أو كارتون أو صوف أو جوخ"، وبحسب ما إذا كان الطربوش مزينا بزخارف ومطرزا أم لا، يؤكد السيد جمال أن كثيرا من القائمين على المسلسلات والأفلام التاريخية يقصدون ورشته لشراء الطرابيش منها، حيث أن الطربوش كان الزي الرسمي لمصر على مدار أكثر من قرن ونصف القرن، وبالتالي فإن كثيرا من الحقب التي تُجسَّد على الشاشة يكون الطربوش بطلا أساسيا لها، حيث عُرف الطربوش في مصر مع تولي محمد علي الحكم في مصر، وظل المصريون يرتدونه في القرن التاسع عشر وحتى بعد منتصف القرن العشرين، حيث توقف ارتداؤه في المصالح الحكومية في عام 1962 بقرار رسمي، وتدريجيا اختفى من على رؤوس المواطنين بالشارع أيضا.
لكن شيوخ الأزهر الشريف وكثيرا من المُقرئين ما يزالون يحافظون على هيئتهم التقليدية بالطربوش والعمامة، حيث تصنع تلك الورش العمامة أيضا. ولا يتعدى عدد الورش التي تحافظ على تلك المهنة في القاهرة خمس ورش موزعة بين شوارع ومناطق الحسين والغورية والمعز العريقة والأثرية، فيما توجد ثلاث ورش أخرى موزعة على ثلاث محافظات، بينها أسيوط بجنوب مصر، والإسكندرية وكفر الشيخ.
بات الطربوش أيضا ديكورا أساسيا في بعض المطاعم ومحلات المقتنيات الكلاسيكية، حيث يرتديه العاملون بها كنوع من أنواع التميز وليصبح للمكان الذي يعملون به شخصية خاصة.
صانع الطرابيش لا يمتلك طربوشا !
عم جمال على الرغم من تقديره لمهنته ومصدر رزقه، ولكنه لم يمتلك طربوشا يوما، ويقول "أنا أعيش مع الطربوش لحظة بلحظة جميع مراحله، وأقدّر كثيرا من يعتزون به ومن يحتاجونه في مظهرهم ولكنني لم أر أبدا أنني بحاجة إليه، فكل يختار مظهره وفقا لطبيعة عمله، وأنا عملي أن أصنع الطربوش وأقدمه لأصحابه لا أن أضعه فوق رأسي".